( ( ومن ) ) أي أي امرئ مذنب ( ( يمت ) ) أي يدركه الموت وهو مصر على ذنوبه ومنهمك في شهواته ( ( ولم يتب من الخطأ ) ) الذي ارتكبه ، والإثم الذي اكتسبه ؛ لم نحكم عليه بالكفر ، كما زعمت
الخوارج ، ولم نقل بأنه خرج من الإسلام بارتكابه كبائر الآثام ، ولم يدخل في الكفر ، بل هو في منزلة بين منزلتي الكفر والإسلام كما زعمت
المعتزلة ، ولا نحكم عليه بالخلود في النار ، بل ولا بدخولها ، بل نقول في من
مات مصرا على كبائر الذنوب والخطايا ( ( فأمره ) ) الذي يئول إليه ( ( مفوض ) ) أي موكول ومردود ( ( لذي ) ) أي صاحب ( ( العطا ) ) الواسع ، والكرم والجود والنعم . والعطا - ويمد - النوال ، وفي الأسماء الحسنى المعطي أي يعطي من يريد ما يريد ، ومن ثم قال ( ( فإن يشأ ) ) - سبحانه وتعالى - ( ( يعف ) ) أي يتجاوز عمن مات مرتكبا لذنوبه ولم يتب منها ، والعفو هو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه ، وأصله المحو وذهاب الأثر ، وفي الأسماء الحسنى العفو ، هو فعول ، من العفو الذي هو التجاوز ( ( وإن شاء انتقم ) ) منه ، فإن عامله بالفضل عفا وأنعم ، وإن عامله بالعدل انتقم وآلم ، والانتقام أن يبلغ في العقوبة حدها ، وفي الأسماء الحسنى المنتقم ، وهو المبالغ في العقوبة لمن يشاء ، وهو مفتعل ، من نقم ينقم إذا بلغت به الكراهة حد السخط ( ( وإن يشأ أعطى ) ) النوال السهل ( ( وأجزل ) ) أي أكثر وأعظم لهم ( ( النعم ) ) بكسر النون المشددة وفتح العين المهملة ، جمع نعمة بكسر النون وسكون العين المهملة ، والاسم بالفتح ، قال في القاموس : النعمة بالكسر
[ ص: 388 ] المسرة واليد البيضاء الصالحة ، كالنعمى بالضم ، والنعماء بالفتح ممدودة ، والجمع أنعم ونعم ونعمات بكسرتين وبفتح العين ، ونعيم الله عطيته . قال الإمام المحقق
ابن القيم في كتابه الجيوش الإسلامية : النعمة نعمتان : نعمة مطلقة ، ونعمة مقيدة ، فالنعمة المطلقة هي المتصلة بسعادة الأبد ، وهي نعمة الإسلام ، وهي التي أمرنا الله - سبحانه وتعالى - أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا إلى صراط أهلها ، ومن خصهم بها وجعلهم أهل الرفيق الأعلى حيث يقول : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة ، وهم المعنيون بقوله - تعالى - :
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ، وإذا قيل ليس لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار فهو صحيح ، والنعمة الثانية هي النعمة المقيدة ، كنعمة الصحة ، والغنى ، وعافية الجسد ، وبسط الجاه وكثرة الولد ، والزوجة الحسنة ، وأمثال ذلك ، فهذه مشتركة بين البر والفاجر ، والمؤمن والكافر ، وإذا قيل : لله على الكافر نعمة ؛ بهذا الاعتبار فهو حق ، فلا يصح إطلاق السلب ولا الإيجاب إلا على وجه واحد ، وهو أن النعم المقيدة لما كانت استدراجا للكافر ، ومآلها إلى العذاب والشقاء ، فكأنها لم تكن نعمة ، وإنما كانت بلية كما سماها الله - تعالى - في كتابه كذلك ، فقال :
فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه الآيتين ; ولهذا قال كلا أي ليس كل من أكرمته في الدنيا ونعمته فيها قد أنعمت عليه ، وإنما ذلك ابتلاء مني واختبار ، ولا كل من قدرت عليه رزقه فجعلته بقدر حاجته من غير فضلة أكون قد أهنته ، بل أبتلي عبدي بالنعم كما أبتليه بالمصائب .
والحاصل أن مذهب أهل الحق من
أهل السنة والجماعة أن من مات مذنبا ، ولو مصرا على كبائر الذنوب ولم يتب منها لعلام الغيوب ؛ لم نقطع له بخروج من الدين ، بل نثبت أنه من المؤمنين ولم نقطع له بدخول النار بل نفوض أمره إلى الحليم الغفار ، فإن شاء عذبه غير أنه لا يخلده في النار ، وإن شاء عفا عنه ابتداء ، إما بشفاعة مقبولة ، أو بدعوة صالح ، أو بمصيبة ؛ من تشديد عند الموت ، أو غيره من مصائب البرزخ ، والصدقة عند الموت ، والأعمال الصالحة
[ ص: 389 ] التي يهديها غيره له ، أو يرحمه أرحم الراحمين ونحو ذلك ، وإن شاء رفع عنه العذاب وأجزل له الثواب ورفع له الدرجات ، وبدل الله سيئاته حسنات .