لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
[ ص: 24 ] ( التنبيه الثاني )

الحق عند أهل السنة أن عذاب القبر على النفس والبدن ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه : العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعا باتفاق أهل السنة والجماعة ، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن ، وتنعم وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها ، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين كما يكون على الروح منفردة عن البدن . وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح ؟ فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة وأهل الكلام . قال شيخ الإسلام : وفي المسألة أقوال شاذة ليست من أقوال أهل السنة والحديث ، أحدها قول من يقول إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على الروح وإن البدن لا ينعم ولا يعذب . قال وهذا تقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان ، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين ، ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم الذين يقرون بمعاد الأبدان لكن يقولون لا يكون ذلك في البرزخ وإنما يكون عند القيام من القبور ، وهؤلاء ينكرون عذاب البدن في البرزخ فقط ، ويقولون إن الأرواح هي المنعمة والمعذبة في البرزخ فإذا كان يوم القيامة عذبت الروح والبدن معا ، قال وهذا قاله طوائف من المسلمين من أهل الكلام والحديث وغيرهم وهو اختيار ابن حزم وابن ميسرة ، قال وهذا ليس من الأقوال الشاذة بل هو مضاف إلى قول من يقر بعذاب القبر ويقر بالقيامة ويثبت معاد الأبدان والأرواح ، ولكن هؤلاء لهم في عذاب القبر ثلاثة أقوال ، على الروح فقط ، عليها وعلى البدن بواسطتها ، على البدن فقط ، وقد يضم إلى ذلك القول الثاني وهو قول من يثبت عذاب القبر ويجعل الروح هي الحياة - ويجعل الشاذ قول منكر عذاب الأبدان مطلقا وقول من ينكر عذاب البرزخ مطلقا ؟ فإذا جعلت الأقوال الشاذة ثلاثة ( فالقول الثاني ) الشاذ قول من يقول إن الروح بمفردها لا تنعم ولا تعذب وإنما الروح هي الحياة وهذا [ ص: 25 ] يقوله طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية كالقاضي أبي بكر الباقلاني وغيره وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن ، وهو قول باطل ، وقد خالفه أصحابه أبو المعالي الجويني وغيره ، بل قد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق الأمة أن الروح تبقى بعد فراق الأبدان وأنها منعمة أو معذبة .

قال والفلاسفة الإلهيون يقرون بذلك لكن ينكرون معاد الأبدان ، وهؤلاء يقرون بمعاد الأبدان لكن ينكرون معاد الأرواح ونعيمها وعذابها بدون الأبدان ، وكلا القولين خطأ وضلال . نعم قول الفلاسفة أبعد عن أقوال أهل الإسلام وإن وافقهم عليه من يعتقد أنه يتمسك بدين الإسلام بل يظن أنه من أهل المعرفة والتصوف و ( التحقيق في ) الكلام .

( القول الثالث ) من الشواذ قول من يقول إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب بل ( لا ) يكون ذلك حتى تقوم الساعة الكبرى كما يقول ذلك بعض المعتزلة وغيرهم ممن ينكر عذاب القبر ونعيمه بناء على أن الروح لا تبقى بعد فراق البدن وأن البدن لا ينعم ولا يعذب ، فجميع هؤلاء الطوائف ضلال في أمر البرزخ إلا أنهم خير من الفلاسفة لأنهم مقرون بالقيامة الكبرى . انتهى .

فإذا علمت هذه الأقوال وعرفت بطلانها فاعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الإنسان إذا مات يكون في نعيم أو عذاب وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة وأنها تتصل بالبدن أحيانا فيحصل له معها النعيم والعذاب ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى الأجساد وقاموا من قبورهم إلى رب المعاد ، قال ابن القيم : والذين قالوا إن عذاب القبر يجري على الميت من غير رد الأرواح إلى الأجساد وأن الميت يجوز أن يألم ويحس بالألم ويعلم بلا روح هم جماعة من الكرامية ومن وافقهم ، وقال جماعة من المعتزلة إن الله سبحانه يعذب الموتى في قبورهم ويحدث فيهم الآلام وهم لا يشعرون فإذا حشروا وجدوا تلك الآلام وأحسوا بها ، قالوا وسبيل المعذبين من الموتى سبيل السكران والمغمى عليه لو ضربوهم لم يجدوا الآلام فإذا عاد إليهم العقل أحسوا بألم الضرب ، وأنكر جماعة منهم عذاب القبر رأسا مثل ( ضرار ) بن عمرو ويحيى [ ص: 26 ] بن كامل وهو قول المريسي فهذه أقوال أهل الحيرة والضلال وقد علمت مذهب سلف الأمة وأعيان الأئمة والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية