( ( فصل ) ) فيما يجب للأنبياء - عليهم السلام - وما يجوز عليهم وما يستحيل في حقهم ) )
قد تقدم في أول الباب
شروط من يكرمه الله بالنبوة من الذكورة ، والحرية ، والقوة على أعباء ما حملوه ونحو ذلك ، وذكر هنا ما يجب اعتقاده في حقهم :
( ( وإن كل واحد منهم سلم من كل ما نقص ومن كفر عصم ) ) ( ( كذاك من إفك ومن خيانه
لوصفهم بالصدق والأمانه ) )
( ( و ) ) هو أن يعرف كل مسلم ( ( أن كل واحد منهم ) ) أي الأنبياء الكرام والرسل العظام ، ( ( سلم ) ) وتنزه ، ( ( من كل ما ) ) زائدة لإقامة الوزن ومزيد التأكيد عما سلموا منه ونزهوا عنه ، ( ( نقص ) ) يؤدي إلى إزالة الحشمة وإسقاط المروءة ، وألحقت بفاعلها الإزراء والخسة كسرقة لقمة وتطفيف بحبة ، لقيام الإجماع على عصمتهم من كل ما يؤدي إلى الإزراء والدناءة ، لأن الله تعالى يقول : (
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) وقال :
[ ص: 304 ] (
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) ، ومن المعلوم عموم ذلك ، وليس في شيء من فعل ما يزري ما يوجب حب الله ، ولا حسن التأسي والاقتداء في ذلك ، فوجب تنزيههم عنه وعن كل عيب ، وسلامتهم من كل ما يوجب الريب ، ( ( و ) ) إن كل واحد منهم ( ( من كفر ) ) بجميع أنواعه ( ( عصم ) ) قبل النبوة وبعدها ، والعصمة المنعة والعاصم المانع الحامي ، والاعتصام الامتساك بالشيء افتعال منه ، ومنه شعر
أبي طالب :
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
أي يمنعهم من الضياع والحاجة ، قال شيخ الإسلام
ابن تيمية - روح الله روحه - : الناس متفقون على أن الأنبياء معصومون فيما يبلغونه عن الله فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين ، ولكن هل يصدر منهم ما يستدركه الله تعالى فينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته ؟
هذا فيه قولان ، قال : والمأثور عن السلف يوافق القول بذلك ، قال : وأما
العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع : هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع ؟ ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من بعضها ، أو هل العصمة إنما هو في الإقرار عليها لا في فعلها ، وقيل : لا يجب القول في العصمة إلا بالتبليغ فقط قال : وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل البعثة أم لا ؟ قال : والذي عليه الجمهور الموافق للآثار إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقا ، قال : ووقوع الذنب إذا لم يقر عليه لم يحصل منه تنفير ولا نقص ، فإن التوبة النصوح يرفع بها صاحبها أكثر مما كان أولا ، وكذلك التأسي بهم إنما هو فيما أقروا عليه بدليل النسخ ونحوه . انتهى .
وقال
ابن حمدان في نهاية المبتدئين : وإنهم معصومون فيما يؤدون عن الله تعالى ، وليسوا معصومين في غير ذلك من الخطأ والنسيان والسهو والصغائر في الأشهر ، لكن لا يقرون على ذلك ، وقال
ابن عقيل في الإرشاد : إنهم - عليهم الصلاة والسلام - لم يعتصموا في الأفعال بل في نفس الأداء ، قال : ولا يجوز عليهم الكذب في الأقوال فيما يؤدونه عن الله تعالى . انتهى .
وقال الحافظ
زين الدين العراقي : النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم من تعمد الذنب بعد النبوة بالإجماع ، ولا يعتد بخلاف بعض
الخوارج والحشوية الذين نقل عنهم تجويز ذلك ، ولا بقول من
[ ص: 305 ] قال من
الروافض بجوازها تقية ، وإنما اختلفوا في جواز وقوع الصغيرة سهوا فمنعه الأستاذ
nindex.php?page=showalam&ids=11812أبو إسحاق الإسفرايني nindex.php?page=showalam&ids=14961والقاضي عياض ، واختاره
تقي الدين السبكي قال : وهو الذي ندين الله به وأجازه كثير من المتكلمين ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض : أجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر الموبقات ، قال : وقد ذهب بعضهم إلى عصمته من مواقعة المكروه قصدا . انتهى .
وقال العلامة
السعد التفتازاني : وفي عصمتهم من سائر الذنوب تفصيل ، وهو أنهم معصومون عن الكفر ، قبل الوحي وبعده بالإجماع ، وكذا عن تعمد الكبائر عند الجمهور خلافا
للحشوية ، وإنما الخلاف في أن امتناعه بدليل السمع أو العقل ، وأما سهوا فجوز الأكثرون ، قال : وأما الصغائر فتجوز عمدا عند الجمهور خلافا
للجبائي وأتباعه ، وتجوز سهوا بالاتفاق إلا ما يدل على الخسة كسرقة لقمة والتطفيف بحبة ، لكن المحققين شرطوا أن ينهوا عنه فينتهوا منه ، هذا كله بعد الوحي . قال : وأما قبله فلا دليل على امتناع صدور الكبيرة ، وذهب المعتزلة إلى امتناعها ، لأنها توجب النفرة المانعة من اتباعهم فتفوت مصلحة البعثة ، قال
السعد : والحق منع ما يوجب النفرة كعهر الأمهات والفجور والصغائر الدالة على الخسة ، ومنع
الشيعة صدور الصغيرة والكبيرة منهم قبل الوحي وبعده ولكنهم جوزوا إظهار الكفر تقية . انتهى .