لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
[ ص: 398 ] ( فصل )

في المفاضلة بين البشر والملائكة ، وهي مسألة عظيمة قد كثر فيها الاختلاف ، وتشعبت فيها الأقوال ، وعظمت فيها المحن والجدال ، ولكثرة الخلاف فيها وتباين أقوال الأئمة من المتكلمين وغيرهم في تفاصيلها قلنا في النظم

( ( وعندنا تفضيل أعيان البشر على ملاك ربنا كما اشتهر ) )


( ( قال ومن قال سوى هذا افترى     وقد تعدى في المقال واجترى ) )



( ( وعندنا ) ) معشر أهل السنة خصوصا أهل الأثر وسلف الأمة وكبار الأئمة فإنهم يقولون ويعتقدون ( ( تفضيل أعيان البشر ) ) محركة الإنسان ذكر أو أنثى ، ويطلق البشر على الواحد والجمع ، وقد يثنى ويجمع أبشارا والمراد بأعيانهم الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - والأولياء ، فالأنبياء أفضل من الأولياء ، وهما أفضل من الملائكة ، وقيل : كل صالح أفضل من الملائكة .

قال الإمام أبو الوفا بن عقيل : الصحيح تفضيل الأنبياء والصالحين على الملائكة ، والملائكة أفضل من الفسقة . وقال تارة : الأنبياء أفضل من الملائكة ، وجبريل وإسرافيل وميكائيل أفضل من الأولياء . وقال سيدنا الإمام أحمد - رضي الله عنه - : بنو آدم أفضل من الملائكة . ولذا قلنا ( ( على ملاك ربنا ) ) تبارك وتعالى [ ص: 399 ] ( ( كما اشتهر ) ) ذلك من نصوص إمامنا الإمام أحمد - رضي الله عنه - ، والملاك هو الملك وجمعه ملائكة ، وحذفت همزة ملاك لكثرة الاستعمال وأصل وزنه مفعل فقيل ملك ، وقد تحذف الهاء من الجميع فيقال ملائك ، وأصله مألك بتقديم الهمزة من الألوكة وهي الرسالة ثم تقدمت اللام على الهمزة في الجمع كما في النهاية وغيرها ، ( ( قال ) ) إمامنا الإمام أحمد - رضي الله عنه - ( ( ومن ) ) أي إنسان ( ( قال ) ) بلسانه أو اعتقد بجنانه ( ( سوى هذا ) ) أي غير القول بتفضيل بني آدم على الملائكة ( ( افترى ) ) أي أتى بكلام خطأ يشعر بالافتراء ، ( ( وقد تعدى ) ) أي تجاوز الحد المنقول والثابت عن الرسول والسلف الفحول ( ( في المقال ) ) الذي اعتمده ، ( ( واجترى ) ) أي افتات على الشارع بالاعتقاد الذي اعتقده ، ولفظ النص : يخطئ من فضل الملائكة .

وقيل : كل مؤمن أفضل من الملائكة . قال ابن حمدان في نهاية المبتدئين وقال الإمام العلامة أبو بكر عبد العزيز بن جعفر المشهور بغلام الخلال - رحمه الله تعالى - : من كان خيره أكثر من شره فهو خير من الملائكة ، ومن كان شره أكثر من خيره فالبهائم خير منه . وقيل : من غلب عقله على شهوته فهو خير من الملائكة ، ومن غلبت شهوته على عقله فالبهائم خير منه . هذا محصل قول جل أصحابنا . وقال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه بدائع الفوائد : سئل شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه - عن صالحي بني آدم والملائكة أيهما أفضل ؟ فأجاب بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية ، والملائكة أفضل باعتبار البداية ، فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى منزهون عما يلابسه بنو آدم مستغرقون في عبادة الرب ، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر ، وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة فتصير حال صالحي البشر أكمل من حال الملائكة ، قال : وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل وتتفق أدلة الفريقين ويصالح كل منهم على حقه .

قال ابن القيم : فعلى المتكلم في هذا الباب - يعني باب التفاضل بين الأشياء - أن يعرف أسباب الفضل أولا ، ثم درجاتها ونسبة بعضها إلى بعض والموازنة بينها ثانيا ، ثم نسبتها إلى من قامت به كثرة وقوة ثالثا ، ثم اعتبار تفاوتها بتفاوت محلها رابعا ، فرب صفة هي كمال لشخص وليست كمالا لغيره بل كمال غيره بسواها ، فكمال خالد بن الوليد لشجاعته وحروبه ، وكمال ابن [ ص: 400 ] عباس بفقهه وعلمه ، وكمال أبي ذر بزهده وتجرده عن الدنيا ، قال : فهذه أربع مقامات يضطر إليها المتكلم في درجات التفضيل ، وتفضيل الأنواع أسهل من تفضيل الأشخاص على الأشخاص وأبعد من الهوى والغرض . انتهى ملخصا .

التالي السابق


الخدمات العلمية