لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء

( فإنه إمام أهل الأثر فمن نحا منحاه فهو الأثري )



( فإنه ) أي الإمام أحمد - رضي الله عنه - ( إمام ) وقدوة ، ( أهل ) أي أصحاب ( الأثر ) ، يعني الذين إنما يأخذون عقيدتهم من المأثور عن الله - جل شأنه - في كتابه ، أو في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ما ثبت وصح عن السلف الصالح من الصحابة الكرام ، والتابعين الفخام ، دون زبالات أهل الأهواء والبدع ، ونخالات أصحاب الآراء والبشع ، ( فمن ) أي : أي إنسان من هذه الأمة ، ( نحا ) أي : قصد ويمم ، ( منحاه ) أي : مقصده ومذهبه ، وسار بسيرته من اتباع الأخبار واقتفاء الآثار ، ( فهو ) أي : ذلك الذاهب مذهب الإمام أحمد ، ( الأثري ) أي : المنسوب إلى العقيدة الأثرية ، والفرقة السلفية المرضية .

ويعرف أيضا بمذهب السلف ، وهو مذهب سلف الأمة وجميع الأئمة المعتبرين المقلدين في أحكام الدين ، وقد قال الإمام علي بن المديني ، وهو شيخ الإمام أحمد وشيخ الشافعي وشيخ البخاري وغيرهم : اتخذت أحمد إماما فيما بيني وبين الله - تعالى ، وقال : إذا أفتاني أحمد بن حنبل لم أبال إذا لقيت ربي كيف كان ، وقال : أحمد سيدنا ، حفظ الله أحمد ، هو اليوم حجة الله على خلقه ، وقال : إن الله - تعالى - أعز هذا الدين برجلين لا ثالث لهما : أبو بكر الصديق يوم الردة ، وأحمد بن حنبل يوم المحنة . وقد قال قتيبة وأبو حاتم : إذا رأيت الرجل يحب الإمام أحمد بن حنبل فاعلم أنه صاحب سنة . وقال ابن ماكولا : الإمام أحمد هو إمام النقل ، وعلم الزهد والورع . وقال غير واحد من أئمة الدين : الإمام أحمد إمام أهل السنة . وفي قصيدة إسماعيل بن فلان الترمذي :

[ ص: 65 ]

لعمرك ما يهوى لأحمد نكبة     من الناس إلا ناقص العقل معور
هو المحنة اليوم الذي يبتلى به     فيعتبر السني فينا ويسبر
فقا أعين المراق فعل ابن حنبل     وأخرس من يبغي العيوب ويحفر



وقال أبو مزاحم الخاقاني :


لقد صار في الآفاق أحمد محنة     وأمر الورى فيها فليس بمشكل



وقال ابن أعين - رحمه الله تعالى :


أضحى ابن حنبل حجة مبرورة     وبحب أحمد يعرف المتنسك
وإذا رأيت لأحمد متنقصا     فاعلم بأن ستوره ستهتك



وعلى كل حال ، الإمام أحمد هو إمام أهل السنة بلا محال ، فهو المبيض وجه السنة ، النافض عن وجهها غبار البدعة ، فكل سني أثري فهو إمامه . فإن قلت : إذا كان مذهب السلف هو ما عليه الأئمة جميعا تبعا للتابعين والصحابة الكرام - رضوان الله عليهم أجمعين ، وهو الذي كان عليه سيد المرسلين وخاتم النبيين ، فكيف ينسب هذا المذهب للإمام أحمد دون من تقدمه من أئمة الدين ؟ قلت : الأمر كما ذكرت ، والحق كما استخبرت ، وهذه المقالة هي الشريعة الغراء ، ومقالة أهل الفرقة الناجية بلا محالة ، ولا يرتاب ذو لب لبيب ، ورأي صحيح مصيب ، أنها هي التي كان عليها النبي الحبيب - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أهل الإصابة والتصويب ، والتابعين لهم بإحسان من أهل التفصيل والتبويب . ولكن لما كان في المائة الثالثة اشرأبت الفتن ، واستعلنت البدع والمحن ، وقامت دولة أهل الابتداع على [ ص: 66 ] ساق ، وأعلن بقواعد أهل الاعتزال ذوو الضغائن والنفاق ، وساعدهم على ذلك أئمة الجور والخلفاء الفساق ، قام الإمام أحمد كالنمر الهصور ، لا ، بل كالبحر الطامي والرئبال الجسور ، فرد كيدهم في نحورهم ، وألقى بلابلهم في صدورهم ، فقمع مقالتهم وزيفها عليهم ، وبين فسادهم بكل حال ، فردهم على أعقابهم خائبين لم ينالوا خيرا ، وكفى الله المؤمنين القتال ، فلا جرم نسب المذهب إليه ; لأنه المقصود إذ ذاك بالذات والمعول عليه ، فإنه هو الذي انتصر للحق ونصره ، وشدخ رأس أهل البدع وهصره ، وبين الصحيح من الفاسد ، والغث من السمين ، والحق من الباطل ، والصدق من المين .

فلما كان الإمام أحمد - رضي الله تعالى عنه - هو الذي فل مضاربهم ، وبين معايبهم ، وكشف عن زيغهم ، ودحض تلوينهم وتحريفهم ، وانتصر لما كان عليه السلف من الإثبات بلا تمثيل ، ومن التنزيه بلا تعطيل ، ومرور الآيات المتشابهات بلا تأويل ، ودعا إلى هذه المقالة ، وأقام عليها كل برهان ودلالة ، نسبت له المقالة ، وصار إمام أهلها في كل حالة ، وألف كتابه في الرد على الجهمية والزنادقة ، وهذا الكتاب رواه عنه الخلال من طريق ابنه عبد الله ، وذكره كله في كتاب السنة الذي جمع فيه نصوص الإمام أحمد وكلامه ، وعلى منوال كتاب الخلال " السنة " ، جمع البيهقي كتابه الذي سماه " جامع النصوص " من كلام الشافعي .

وخطبة كتاب الإمام أحمد " الرد على الجهمية " : الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل ، بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصرون بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس ، وما أقبح أثر الناس عليهم ، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة ، وأطلقوا عنان الفتنة ، فهم مختلفون في الكتاب ، مخالفون للكتاب ، مجمعون على مخالفة الكتاب ، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب [ ص: 67 ] الله بغير علم ، يتكلمون بالمتشابه من الكلام ، ويخدعون الجهال بما يشبهون عليهم ، فنعوذ بالله من فتن المضلين " . ثم ساق الكتاب ، قد قرأناه ورويناه عن علماء معتبرين ، وفضلاء راسخين ، والله ولي المتقين .

وقد ذكر كتاب الإمام أحمد هذا أئمة المذهب ، قال الخلال : كتبت هذا الكتاب من خط عبد الله ، وكتبه عبد الله من خط أبيه الإمام أحمد - رضي الله عنه . واحتج القاضي أبو يعلى في كتابه " إبطال التأويل " بما نقله منه عن الإمام أحمد . وذكر ابن عقيل في كتابه بعض ما فيه عن الإمام أحمد ، ونقل منه أصحابه قديما وحديثا ، ونقل منه الإمام الحافظ البيهقي ، وعزاه إلى الإمام أحمد ، وصحح هذا الكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أحمد ، واعتمده الإمام المحقق ابن القيم في جل تآليفه ، وصححه في كتابه " الجيوش الإسلامية " ، وقال : لم يسمع من أحد من متقدمي أصحاب الإمام أحمد ولا متأخريهم طعن فيه ، والله أعلم .

فلما انتصر الإمام أحمد - رضي الله عنه - للسنة السنية ، والفرقة الناجية المرضية ، وقمع أهل البدع ، وزيف مقالتهم ، وأدحض بدعتهم ، وأظهر ضلالتهم ، صار هو علم السنة وإمامها ، وصاحبها وخليلها ومقدامها ، حتى إن الإمام أبا الحسن علي بن إسماعيل الأشعري إمام الطائفة الأشعرية انتسب إلى الإمام أحمد ، ورأى اتباعه على عقيدته هو المنهج الأحمد ، قال في كتابه " الإبانة في أصول الديانة " لما أنكر قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة : فإن قال قائل : " فعرفونا قولكم الذي به تقولون ، وديانتكم التي بها تدينون ، قيل له : قولنا الذي به نقول ، وديانتنا التي بها ندين ، التمسك بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ، ونحن بذلك معتصمون ، وبما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل - نضر الله وجهه ، ورفع درجته ، وأجزل مثوبته - قائلون ، ولمن خالف قوله مجانبون ; لأنه الإمام الفاضل ، والرئيس الكامل ، الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال ، وأوضح به المنهاج ، وقمع به بدع المبتدعين ، وزيغ الزائغين ، وشك الشاكين ، فرحمة الله عليه [ ص: 68 ] من إمام مقدم ، وكبير مفهم ، وعلى جميع أئمة المسلمين " . انتهى .

ولد سيدنا وقدوتنا وإمامنا الإمام أحمد - رضي الله عنه - في شهر ربيع الأول ، سنة أربع وستين ومائة ببغداد ، وتوفي نهار الجمعة من شهر ربيع الأول لاثنتي عشرة ليلة خلت منه سنة إحدى وأربعين ومائتين ، وغسله المروذي ، وأدرج في ثلاث لفائف ، وحزر من صلى عليه بمائة ألف ألف ، وعلى السور ستون ألفا سوى من كان في السفن ، وكان الإمام أحمد - رضي الله عنه - يقول : قولوا لأهل البدع : بيننا وبينكم يوم الجنائز . وأسلم من اليهود والنصارى والمجوس يوم موته عشرون ألفا ، وناحت الجن عليه ، وهتفت بموته الهواتف . قال أبو زرعة : كان يقال عندنا بخراسان : الجن نعت أحمد بن حنبل قبل موته ، وسمعوا قائلا : مات رجل بالعراق فذهبت الجن كلها تصلي عليه إلا المردة . وقد رثي بقصائد جمة ، ودفن ببغداد بباب حرب .

التالي السابق


الخدمات العلمية