( ( ولست في قولي بذا مقلدا إلا النبي المصطفى مبدي الهدى ) )
( ( صلى عليه الله ما قطر نزل وما تعانى ذكره من الأزل ) )
( ( وما انجلى بهديه الديجور وراقت الأوقات والدهور ) )
( ( ولست في قولي بذا ) ) أي بما أشرت إليه من اقتفاء الأئمة والسلف الصالح ( ( مقلدا ) ) لهم في اعتقادي ، وإن الذي نحوه بمجرده عمدتي واعتمادي ، من غير نظر في الدليل وبحث عن الكثير والقليل ، بل نظرت كما نظروا ، وسبرت كما سبروا ، وخضت في علوم النظر والكلام ،
[ ص: 454 ] والحكمة والأحكام ، فرأيتها لا تشفي من سقام ، ولا تروي من أوام ، ولا تهدي من ضلال ، ولا تجدي من نوال ، هذا واللب عاكف على الآثار ، عارف بثمرات الأخبار ، كارف من نشرها ما يزيل نتن الآراء ، غارف من بحرها ما يطفئ حرارات الأهواء ، مقتبسا من أنوارها ما يقشع ظلمات الأفكار الفلسفية ، ملتمسا من أسرارها ما يقمع شبهات الأنظار الكلامية ، مقيدا منها بما يزيل الخيالات المعتزلية ، معتمدا منها على ما يغسل الزبالات الرافضية ، فليس لي في كل سيري قلدا ، ولا في اعتقادي قدوة معتمدا ( ( إلا النبي المصطفى ) ) من سائر العالم لمختار من سائر بني آدم ، ( ( مبدي ) ) أي مظهر ومبين وكاشف ( ( الهدى ) ) بالدلائل الواضحة ، ومرشد العالم إلى سلوك المسالك الناجحة ، وتقدم الكلام على الهداية ، بما فيه الكفاية ، فقد بذلت وسعي في اقتفاء آثاره ، وانتقاء أخباره ، وسبر أحواله ، ونشر أقواله ، وتهذيب سيرته الشريفة ، وثبوت شريعته المحكمة المنيفة ، فكرعت منها عللا بعد نهل ، وشربت عذبا زلالا صافيا بريا من زبالات الآراء والزلل ، فذاك معتمدي مدى العمر ، لا زيد ولا بكر ، ولا
خالد ولا
عمرو .
( ( صلى عليه الله ) ) تقدم الكلام عن معنى الصلاة والسلام ، ( ( ما قطر نزل ) ) أي مدة دوام نزول الأمطار وتداول الأعصار ، والقطر هو الماء والنزول وكفه من العلو إذا هطل ، ( ( و ) ) - صلى الله عليه وسلم - ( ( ما تعانى ) ) المعتنون ( ( ذكره من الأزل ) ) في الأعصار الخالية والأطوار البالية والقرون الفانية والأمم الماضية ، فإنه لم يخل زمان من ذكره ولا أوان من التنويه بشرعه ومبعثه ونهيه وأمره إلى أن جاء إبان رسالته زمان بعثته وظهور مقالته فظهرت شمس نبوته على سائر كواكب النبوات ، فانخنست وبهرت رسالته المقالات فانطمست ، ( ( و ) ) - صلى الله عليه وسلم - ( ( ما انجلى ) ) أي تفرق وزال وانكشف ( ( بهديه ) ) الناصع ونور شرعه المشرق اللامع ( ( الديجور ) ) أي الظلام ، قال في القاموس : الديجور التراب والظلام والأغبر الضارب إلى السواد . أي مدة دوام انجلاء ظلام الشرك وسواد الإفك وغبار البدع والابتكار بمنار هديه ونور شرعه الذي أزال كل ظلال وأطفأ كل نار ، ( ( و ) ) ما بهديه - صلى الله عليه وسلم - ( ( راقت ) ) أي صفت ، قال في القاموس :
[ ص: 455 ] الترويق التصفية والرواق المصفاة والريق تردد الماء على وجه الأرض من الضحضاح والرائق الخالص ، و ( ( الأوقات ) ) جمع وقت وهو المقدار من الدهر وأكثر ما يستعمل في الماضي ، والميقات يطلق على الزمان والمكان المضروب للفعل ، وفي نسخة ما راقت الأيام بدل الأوقات جمع يوم ، والمراد ما خلصت وصفت الأحوال جمع حال الواقعة في الأوقات والحاصلة في الأيام والساعات ، والحال كنه الإنسان وما هو عليه كالحالة ويراد بالحال الهيئة ومنه تغير من حال إلى حال ، ( ( و ) ) ما راقت ( ( الدهور ) ) جمع دهر وهو الزمان الطويل والأمد الممدود وقد يعد في الأسماء الحسنى ، والمراد على حذف مضاف والذي عده في الأسماء الحسنى نظر إلى ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1027081لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر " . وإلى ظاهر الحديث القدسي - قال الله تعالى : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1027082يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر " . قال
الحافظ ابن حجر في شرح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، وقال
الخطابي معناه : أنا صاحب الدهر ومدبر الأمور التي ينسبونها إلى الدهر فمن سب الدهر من أجل هذه الأمور عاد بسبه إلى ربه الذي هو فاعلها ، وإنما الدهر زمان جعل ظرفا لمواقع الأمور ، وكانت عادة الجاهلية أنهم إذا أصابهم مكروه أضافوه للدهر ، فقالوا : بؤسا للدهر وتبا للدهر .
قال المحققون :
من نسب سيئا من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر ، ومن جرى هذا اللفظ على لسانه غير معتقد لذلك فليس بكافر ولكن يكره له ذلك . وقد شن الغارة
الحافظ ابن الجوزي على من نسب شيئا من ذلك إلى الدهر ولو لم يعتقد ظاهره في عدة مواضع من كتبه منها صيد الخاطر . وغلط
nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض من زعم أن الدهر من أسماء الله تعالى ، فإن الدهر مدة زمان الدنيا ، وعرفه بعضهم بأنه أمد مفعولات الله في الدنيا أو فعله لما قبل الموت . وقد تمسك الجهلة من
الدهرية والمعطلة بظاهر هذا الحديث واحتجوا به على من لا رسوخ له في العلم ، لأن الدهر عندهم حركات الفلك وأمد العالم ولا شيء عندهم ولا صانع سواه . وكفى في الرد عليهم قوله في بقية الحديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1027083أنا الدهر أقلب ليله ونهاره " . فكيف يقلب الشيء نفسه ؟ تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا . وقال
محمد بن أبي جمرة : لا يخفى أن من سب الصنعة فقد سب
[ ص: 456 ] صانعها ، فمن سب نفس الليل والنهار أقدم على أمر عظيم بغير معنى ، وذكر نحو ما قدمنا من أن ليس للدهر ولا لليل والنهار فعل ولا تأثير ، فمن سب شيئا من ذلك يؤول من حيث المعنى أنه سب خالق ذلك . انتهى ملخصا .
( ( وآله وصحبه أهل الوفا معادن التقوى وينبوع الصفا ) )
( ( وتابع وتابع للتابع خير الورى حقا بنص الشارع ) )
( ( و ) ) صلى الله على ( ( آله ) ) أي أتباعه على دينه ، وقيل أقاربه الأدنون من
بني هاشم وبني المطلب ، والأول اختيار
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد في مقام الدعاء ، والثاني اختيار
nindex.php?page=showalam&ids=13790الإمام الشافعي وقيل آله أهله ، والصواب جواز إضافته إلى الضمير خلافا لمن أنكر ذلك نعم هو قليل ، ( ( وصحبه ) ) وهم كل من اجتمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا ومات على الإيمان ، وتقدم الكلام عليهم في أول الكتاب ، وفي قوله ( ( أهل الوفا ) ) إشارة إلى أنهم فعلوا ما أمروا ووفوا بما عاهدوا الله ورسوله عليه من بذل نفوسهم النفيسة ، وكل نفيس في نصرة الدين القويم والتمسك بهديه المستقيم .
وقوله ( ( معادن التقوى ) ) يصح جره على التبعية لما قبله ونصبه بفعل محذوف تقديره أمدح ونحوه ورفعه خبر لمبتدأ محذوف تقديره هم ، والمعادن جمع معدن بكسر الدال ، قال
الأزهري : سمي المعدن معدنا لعدون ما أنبته الله فيه أي لإقامته فيه ، يقال عدن بالمكان يعدن عدونا والمعدن المكان الذي عدن فيه الجوهر من جواهر الأرض أي ذلك كان .
وأحرى خلق الله تعالى وأجدر بإقامة التقوى فيهم وعدونها لديهم بعد أنبياء الله تعالى ورسله أصحاب نبيه المصطفى - رضوان الله تعالى عليهم -
والتقوى التحرز بطاعة الله تعالى عن مخالفته وامتثال أمره واجتناب نهيه ، وحقيقتها أن يجعل المرء بينه وبين معاصي الله وقاية تمنعه من انتهاكها والوقوع فيها ، فلا بد أن يجعل بينه وبينها حاجزا ، وفي سنن
الترمذي nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه من حديث
عبد الله بن يزيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1027084لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس " . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=4أبو الدرداء - رضي الله عنه - : التقوى تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة ، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما حجابا بينه وبين الحرام . وتقدم الكلام عليها
[ ص: 457 ] في صدر الكتاب .
( ( وينبوع الصفا ) ) معطوف على معادن والينبوع - بفتح التحتية وسكون النون وضم الموحدة وبعدها واو ساكنة فعين مهملة - عين الماء أو الجدول الكثير الماء كما في القاموس ، والصفاء ضد الكدر كالصفو والصفوة ، وصفوة الشيء مثلثة ما صفي منه ومنه صفا الجو إذا لم يكن فيه لطخة غيم ،
فالصحابة الكرام ينبوع كل خالص من الكدر نقي من غبار البدع وقذى الفكر ، فمن ورد موردهم كرع صافيا زلالا ، ومن زل عن نهجهم شرب أجاجا قذرا وبالا ، ( ( و ) ) على ( ( تابع ) ) لهم بإحسان ( ( وتابع للتابع ) ) على نهج الاستقامة والإتقان ، وهؤلاء القرون الثلاثة ( ( خير الورى ) ) كفتى : الخلق أي من هذه الأمة وأفضلهم أحق بذلك ( ( حقا بنص الشارع ) ) للشرائع يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقدم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1027085خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " . قال
nindex.php?page=showalam&ids=40عمران بن حصين - رضي الله عنهما - فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة . رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومسلم وغيرهما ، وكذا في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة عند
مسلم ، ولفظ حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1027086خير أمتي القرن الذي بعثت فيه " .
ولهذا المعنى قال :