لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( الثانية ) : ما أشار إليها بقوله ( و ) يجب له - سبحانه وتعالى - ( الكلام ) ، أي [ ص: 133 ] يجب الجزم بأنه - تعالى - متكلم بكلام قديم ذاتي وجودي ، غير مخلوق ولا محدث ولا حادث ، لا يشبه كلام الخلق ، قال شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين ابن تيمية في شرح " رسالة الأصفهاني " الإمام المتكلم الأشعري : قد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الله - تعالى - متكلم بكلام قائم بذاته ، وأن كلامه - تعالى - غير مخلوق ، وأنكروا على الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم في قولهم : إن كلامه - تعالى - مخلوق ، خلقه في غيره ، وأنه كلم موسى بكلام خلقه في الشجرة ، وكلم جبريل بكلام خلقه في الهواء ، واتفق أئمة السلف على أن كلام الله منزل غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود . قال : ومعنى قولهم منه بدأ : أي هو المتكلم به ، لم يخلقه في غيره ، كما قالت الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم بأنه بدأ من بعض المخلوقات ، وأنه - سبحانه - لم يقم به كلام . قال : ولم يرد السلف أنه كلام فارق ذاته ، فإن الكلام وغيره من الصفات لا يفارق الموصوف ، بل صفة المخلوق لا تفارقه وتنتقل إلى غيره ، فكيف صفة الخالق تفارقه وتنتقل إلى غيره ؟ ولهذا قال سيدنا الإمام أحمد : كلام الله ليس ببائن من خلقه في بعض الأجسام . قال شيخ الإسلام : ومعنى قول السلف " وإليه يعود " ، ما جاء في الآثار " إن القرآن يسرى به حتى لا يبقى في المصاحف منه حرف ، ولا في القلوب منه آية ، وما جاءت به الآثار عن النبي المختار - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين لهم بإحسان وغيرهم من أئمة المسلمين ، كالحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند ، وكتبه إلى المتوكل في رسالته التي أرسل بها إليه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه . يعني القرآن ، وفي لفظ : " بأحب إليه مما خرج منه " ، وقول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لما سمع كلام مسيلمة - إن هذا كلام لم يخرج من ال - أي من رب ، وقول ابن عباس - رضي الله عنهما - لما سمع قائلا يقول لميت لما وضع في لحده : اللهم رب القرآن ، اغفر له ، فالتفت إليه ابن عباس - رضي الله عنهما - فقال : مه ، القرآن كلام الله ليس بمربوب ، منه بدأ وإليه يعود . وهذا الكلام معروف عن ابن عباس - رضي الله عنهما .

وقول السلف : القرآن كلام الله غير [ ص: 134 ] مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود ، كما استفاضت الآثار عنهم بذلك ، كما هو منقول عنهم في الكتب المسطورة بالأسانيد المشهورة ، ( قال ) شيخ الإسلام في شرح " الأصفهانية " : وهذه الروايات لا يدل شيء منها على أن الكلام يفارق المتكلم وينتقل إلى غيره ، وإنما تدل على أن الله هو المتكلم بالقرآن ومنه سمع ، لا أنه خلقه في غيره ، كما فسره بذلك الإمام أحمد - رضي الله عنه - وغيره من الأئمة ، قال أبو بكر الخلال : سئل الإمام أحمد عن قوله : القرآن كلام الله ، منه خرج وإليه يعود ، فقال الإمام أحمد : منه خرج هو المتكلم به ، وإليه يعود يعني ما قدمنا . فإن قيل : هل كلام الباري - جل وعلا - صفة ذات أو صفة فعل ؟ فالجواب مذهب سلف الأمة ومحققي الأئمة ، أنه صفة ذات وفعل معا ، فإن صفة الكلام لله - عز شأنه - ثابتة بإجماع الأنبياء على ذلك ، فيتكلم إذا شاء ومتى شاء بلا كيف ، فإن الكلام صفة كمال لا نقص فيه ، فالرب أحق أن يتصف بالكلام من كل موصوف بالكلام ، إذ كل كمال لا نقص فيه يثبت للمخلوق ، فالخالق أولى به ; لأن القديم الواجب الخالق أحق بالكمال المطلق من المحدث الممكن المخلوق ، ولأن كل كمال يثبت للمخلوق فإنما هو من الخالق ، وما جاز اتصافه به من الكمال وجب له ، فإنه لو لم يجب له لكان إما ممتنعا ، وهو محال بخلاف الفرض ، وإما ممكنا فيتوقف ثبوته له على غيره ، والرب - تعالى - لا يحتاج في ثبوت كماله إلى غيره ، فإن معطي الكمال أحق بالكمال ، فيلزم أن يكون غيره أكمل منه لو كان غيره معطيا له الكمال ، وهذا محال ، بل هو - جل شأنه - بنفسه المقدسة مستحق لصفات الكمال ، فلا يتوقف ثبوت كونه متكلما على غيره ، فيجب ثبوت كونه متكلما وأن ذلك لم يزل ولا يزال ، والمتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازما له بدون قدرته ومشيئته ، والذي لم يزل يتكلم إذا شاء أكمل ممن صار الكلام يمكنه بعد أن لم يكن الكلام ممكنا له ، وحينئذ فكلامه ( قديم ) مع أنه يتكلم بمشيئته وقدرته .

( وقال ابن كلاب ) ومن وافقه : كلامه - تعالى - صفة ذات لازم لذاته كلزوم الحياة ، ليس هو متعلقا بمشيئته وقدرته ، بل هو قديم كقدم الحياة ، إذ لو - قلنا إنه بقدرته ومشيئته ، لزم أن يكون حادثا ، فيلزم أن يكون [ ص: 135 ] مخلوقا أو قائما بذات الرب ، فيلزم قيام الحوادث به ، وذلك يستلزم تسلسل الحوادث ; لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده ، قالوا : وتسلسل الحوادث ممتنع إذ التفريع على هذا الأصل . ثم إن هؤلاء لما قالوا بقدم عين الكلام تنازعوا ، فقالت طائفة : القديم لا يكون حروفا ولا أصواتا ; لأن الصوت يستحيل بقاؤه كما يستحيل بقاء الحركة ، وما امتنع بقاؤه امتنع قدم عينه بطريق الأولى والأحرى ، فيمتنع قدم شيء من الأصوات المعينة ، كما يمتنع قدم شيء من الحركات المعينة ; لأن تلك لا تكون كلاما إلا إذا كانت متعاقبة ، والقديم لا يكون مسبوقا بغيره ، فلو كانت الميم من بسم الله قديمة مع كونها مسبوقة بغيرها ، لكان القديم مسبوقا بغيره ، وهذا ممتنع ، فيلزم أن يكون القديم هو المعنى فقط ، ولا يجوز تعدده ; لأنه لو تعدد ، لكان اختصاصه بقدر دون قدر ترجيحا بلا مرجح ، وإن كان لا يتناهى لزم وجود أعداد لا نهاية لها في آن واحد ، قالوا : وهذا ممتنع ، فيلزم أن يكون معنى واحدا هو الأمر والنهي والخبر وهو معنى التوراة والإنجيل والزبور والفرقان . قال شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه : وهذا أصل قول الكلابية والأشعرية ومن وافقهم .

وقالت طائفة من أهل الكلام والحديث والفقهاء وغيرهم : إنه حروف قديمة الأعيان ، لم تزل ولا تزال ، وهي مترتبة في ذاتها لا في وجودها ، كالحروف الموجودة في المصحف ، وليس بأصوات قديمة . ومنهم من قال : بل هو أصوات أيضا قديمة . ولم يفرق هؤلاء بين الحروف المنطوقة التي لا توجد إلا متعاقبة ، وبين الحروف المكتوبة التي توجد في آن واحد ، كما يفرق بين الأصوات والمداد ، ويمتنع أن يكون الصوت المعين قديما ; لأن ما وجب قدمه لزم بقاؤه وامتنع عدمه ، والصوت لا يبقى . وأما الحروف المكتوبة فقد يراد بها نفس الشكل القائم بالمداد ، أو ما يقدر بقدر المداد ، كالشكل المصنوع في حجر أو ورق بإزالة بعض أجزائه ، وقد يراد بالحروف نفس المداد . وأما الحروف المنطوقة ، فقد يراد بها أيضا الأصوات المقطعة المؤلفة ، وقد يراد بها حدود الأصوات وأطرافها ، كما يراد بالحرف في الجسم حده [ ص: 136 ] ومنتهاه ، فيقال : حرف الرغيف وحرف الجبل ، ومنه قوله - تعالى : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف ) ، وقد يراد بالحروف الحروف الحالية ، وهو ما يتشكل في باطن الإنسان من الكلام المؤلف المنظوم قبل أن يتكلم به . وقد تنازع الناس ، هل يمكن وجود حروف بدون أصوات في الحي الناطق ؟ على قولين لهم ، وعلى هذا تنازعت هذه الطائفة القائلة بقدم أعيان الحروف ، هل تكون قديمة بدون أصوات ، أم لا بد من أصوات قديمة لم تزل ولا تزال ؟ ثم القائلون بقدم الأصوات المعينة تنازعوا في المسموع من القارئ ، هل يسمع منه الصوت القديم ؟ فقيل : المسموع منه هو الصوت القديم ، وقيل : بل صوتان : أحدهما القديم ، والآخر المحدث ، فما لا بد منه في وجود القرآن فهو القديم ، وما زاد على ذلك فهو المحدث . وقيل : بل الصوت القديم غير المسموع من العبد . وهذا كله كلام من لا يعول على كلامه من الفرق المائلة . والذين قالوا إن كلامه - تعالى - صفة فعل ، هم الذين يقولون إن القرآن مخلوق ، وبين الفريقين بون ، الأولون يقولون إن التكليم والنداء ليس إلا مجرد خلق إدراك المخلوق ، بحيث يسمع ما لم يزل ولا يزال ، لا أنه يكون هناك كلام يتكلم الله به بمشيئته وقدرته ولا تكليم ، بل تكليمه عندهم جعل العبد سامعا لما كان موجودا قبل سمعه بمنزلة جعل الأعمى بصيرا لما كان موجودا قبل رؤيته عن غير إحداث شيء منفصل عن الأعمى ، فعندهم لما جاء موسى لميقات ربه سمع النداء القديم لا أنه حينئذ نودي ، ولهذا يقولون : إنه يسمع كلامه لخلقه بدل قول الناس إنه يكلم خلقه . وأما الآخرون وهم الخلقية الذين يقولون : إن القرآن مخلوق ، خلقه الله - تعالى - في جسم من الأجسام المخلوقة ، كما هو قول الجهميين الذين قالوا بخلق القرآن من المعتزلة والنجارية والضرارية ، ولا يخفى أن قوله - تعالى : ( منزل من ربك ) مبطل لهذا ولقول من يقول : إن القرآن العربي ليس منزلا من الله ، بل مخلوق ، إما في جبريل أو محمد أو الهواء ، أو ألهمه جبريل أو محمد أو الهواء ، أو ألهمه جبريل فعبر عنه بالقرآن العربي ، أو يكون أخذه جبريل من اللوح المحفوظ أو غيره ، فهذا قول من يقول [ ص: 137 ] : إن القرآن العربي ليس هو كلام الله ، وإنما كلامه المعني القائم بذاته ، والقرآن العربي خلق ليدل على ذلك المعنى ، وهذا قول الكلابية والأشعرية في نفس القرآن العربي الذي جاء به جبريل من رب العالمين ، فبلغه للنبي الأمين ، وأخبرنا الله ورسوله أنه كلام رب العالمين ، نزل به الروح الأمين . وقالت طائفة : بل الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم ، ويمتنع أن يكون كلامه مخلوقا في غيره ، والحق - جل شأنه - متكلم بمشيئته وقدرته ، فيكون كلامه حادثا كان بعد أن لم يكن ، وهذا قول الكرامية ومن نحا نحوهم ، ثم من هؤلاء من يقول : كلامه كله حادث لا محدث ، ومنهم من يقول هو حادث ومحدث .

التالي السابق


الخدمات العلمية