والحاصل أن
المعتزلة موافقة
الأشعرية ، والأشعرية موافقة المعتزلة في أن هذا القرآن الذي بين دفتي المصحف مخلوق محدث وإنما الخلاف بين الطائفتين أن
المعتزلة لم تثبت لله كلاما سوى هذا ،
والأشعرية أثبتت
الكلام النفسي القائم بذاته تعالى ، وأن
المعتزلة يقولون : إن المخلوق كلام الله ،
والأشعرية لا يقولون أنه كلام الله ، نعم يسمونه كلام الله مجازا هذا قول جمهور متقدميهم ، وقالت طائفة من متأخريهم : لفظ كلام يقال على هذا المنزل الذي نقرؤه ونكتبه في مصاحفنا ، وعلى الكلام النفسي بالاشتراك اللفظي .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية : لكن هذا ينقض أصلهم في إبطال قيام الكلام بغير المتكلم به ، وهم مع هذا لا يقولون إن المخلوق كلام الله حقيقة كما يقوله
المعتزلة مع قولهم أنه كلامه حقيقة ، بل يجعلون القرآن العربي كلاما لغير الله ، وهو كلامه حقيقة .
قال
شيخ الإسلام : وهذا شر من قول
المعتزلة ، وهذا حقيقة قول
الجهمية . ومن هذا الوجه فقول
المعتزلة أقرب . قال : وقول الآخرين هو قول
الجهمية المحضة ، لكن
المعتزلة في المعنى موافقون لهؤلاء ، وإنما ينازعونهم في اللفظ الثاني ، إذا هؤلاء يقولون لله كلام هو معنى قديم قائم بذاته ،
والخلقية يقولون لا يقوم بذاته كلام ، ومن هذا الوجه
فالكلابية خير من
الخلقية في الظاهر ، لكن جمهور المحققين من علماء السلف يقولون : إن أصحاب هذا القول عند التحقيق
[ ص: 166 ] لم يثبتوا كلاما له حقيقة غير المخلوق لأنهم يقولون عن الكلام النفسي إنه معنى واحد هو الأمر والنهي ، والخبر إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا ، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة ، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا .
وجمهور العقلاء يقولون : إن فساد هذا معلوم بالضرورة بعد التصور التام ، فإنا إذا عربنا التوراة والإنجيل لم يكن معناهما معنى القرآن بل معاني هذا ليست معاني هذا ، وكذلك "
قل هو الله أحد " ليس هو معنى "
تبت يدا أبي لهب " ولا معنى آية الكرسي آية الدين ، وقالوا : إذا جوزتم أن تكون الحقائق المتنوعة شيئا واحدا فجوزوا أن يكون العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر صفة واحدة ، فاعترف أئمة هذا القول بأن هذا الإلزام ليس لهم عنه جواب عقلي ، ثم منهم من قال : الناس في الصفات إما مثبت لها ، وإما ناف لها ، وأما إثباتها واتحادها فخلاف الإجماع ، وممن اعترف بأن ليس له عنه جواب
أبو حسن الآمدي وغيره من المحققين .
والمقصود أن النص القرآني يبين فساد هذا القول ، فإن قوله :
نزله روح القدس من ربك يقتضي نزول القرآن من رب العالمين ، والقرآن اسم لهذا الكتاب العربي لفظه ومعناه بدليل قوله :
فإذا قرأت القرآن فإنه من يقرأ القرآن العربي لا معانيه المجردة .
وأيضا فضمير المفعول في قوله " نزله " عائد إلى ما في قوله تعالى :
والله أعلم بما ينزل فالذي أنزله الله هو الذي أنزله روح القدس ، فإذا كان روح القدس نزل بالقرآن العربي لزم أن يكون نزله من الله فلا يكون شيء منه نزله من عين من الأعيان المخلوقة ، ولا نزله من نفسه ، وأيضا فإنه تعالى عقب هذه الآية :
ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين .
وهذا ظاهر الدلالة على بطلان زعمهم فقد اشتهر في التفسير أن بعض الكفار كانوا يزعمون أن
محمدا - صلى الله عليه وسلم - تعلم القرآن من شخص كان
بمكة أعجمي ، قيل أنه كان مولى
لابن الحضرمي ، فإذا كان الكفار جعلوا الذي يعلمه ما نزل به روح القدس بشرا ، والله عز وجل أبطل ذلك بأن لسان ذلك أعجمي ، وهذا لسان عربي مبين علم أن روح القدس نزل باللسان العربي المبين وأن
محمدا لم يؤلف نظم القرآن بل سمعه من روح القدس
[ ص: 167 ] وإذا كان روح القدس : نزل به من الله علم أنه سمعه منه تبارك وتعالى لم يؤلفه روح القدس ، وهذا بيان من الله تعالى أن القرآن الذي هو باللسان العربي المبين سمعه روح القدس من الله سبحانه وتعالى ، ونزل به منه ، وقد قال الله تعالى :
وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين .
والكتاب اسم للقرآن العربي بالضرورة والاتفاق ، فإن
الكلابية أو بعضهم ، ومن وافقهم يفرقون بين كلام الله ، وكتاب الله ، فيقولون كلامه هو القائم بالذات ، وهو غير مخلوق ، وكتابه المنظوم المؤلف من الحروف العربي وهو مخلوق ، والقرآن يراد به هذا تارة ، وهذا تارة .
وقد سمى الله تعالى نفس مجموع اللفظ والمعنى قرآنا وكتابا وكلاما ، فقال الله تعالى :
الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ، وقال
طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين ، وقال
وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن إلى قوله تعالى :
ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى فبين أن الذي سمعوه هو القرآن وهو الكتاب ، وقال
بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون .
والمقصود أن قوله تعالى
هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا يتناول نزول القرآن العربي على كل قول ، وقد أخبر تعالى إن الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق إخبار مستشهد بهم لا مكذب لهم .
وقال : إنهم يعلمون ذلك ، ولم يقل : إنهم يظنونه أو يقولونه ، والعلم لا يكون إلا حقا مطابقا للمعلوم بخلاف القول ، والظن الذي ينقسم إلى حق وباطل فعلم أن القرآن العربي منزل من الله تعالى لا من الهواء ، ولا من اللوح ، ولا من جسم آخر ، ولا من
جبريل ، ولا من
محمد - عليهما السلام - ولا من غيرهما ، فمن لم يقر بذلك من هذه الأمة كان أهل الكتاب خيرا منه من هذا الوجه .
فإن قلت قد جاء عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره من السلف في تفسير قوله تعالى
إنا أنزلناه في ليلة القدر أنزل إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزله بعد ذلك منجما مفرقا بحسب الحوادث قد أخبر الله تعالى أن القرآن الكريم مكتوب في اللوح المحفوظ قبل نزوله كما قال تعالى :
بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ وقال تعالى
[ ص: 168 ] إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون وقال تعالى
كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة وقوله تعالى
وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم فالجواب أن كون القرآن العظيم مكتوبا في اللوح المحفوظ وفي الصحف المطهرة بأيدي الملائكة الكرام لا ينافي أن يكون
جبريل نزل به من الله تعالى ، سواء كتبه الله قبل أن يرسل به
جبريل أو بعد ذلك ، وإذا كان قد أنزله مكتوبا إلى بيت العزة جملة واحدة ليلة القدر فقد كتبه كله قبل أن ينزله ، قاله
شيخ الإسلام ابن تيمية .
وقال : والله تعالى يعلم ما كان ، وما يكون ، وما لا يكون ولو كان كيف كان يكون ، وهو تعالى قدر مقادير الخلائق ، وكتب أعمال العباد قبل أن يعملوها ، كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة وآثار السلف ، ثم أنه يأمر الملائكة بكتابتها ، بعدما يعملونها فيقابل بين الكتابة المتقدمة على الوجود والكتابة المتأخرة عنه فلا يكون بينهما تفاوت .
هكذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنها - وغيره من السلف ، وهو حق فإذا كان ما يخلقه بائنا عنه قد كتبه قبل أن يخلقه فكيف يستبعد أن يكون كلامه الذي يرسل به ملائكته مكتوبا قبل أن يرسلهم به .
ومن زعم أن جبريل أخذ القرآن من الكتاب ، ولم يسمعه من الله تعالى ، كان هذا باطلا من وجوه منها : أن الله تعالى قد كتب التوراة
لموسى - عليه السلام - بيده
فبنو إسرائيل أخذوا كلام الله من الكتاب الذي كتبه الله سبحانه فيه ، فإن كان
محمد أخذه عن
جبريل ،
وجبريل عن الكتاب ، كان
بنو إسرائيل أعلى من
محمد - صلى الله عليه وسلم - بدرجة .
وهكذا من قال أنه ألقي إلى
جبريل معاني القرآن ، وإن
جبريل عبر عنها بالكلام العربي ، فقوله يستلزم أن يكون
جبريل ألهمه إلهاما ، وهذا الإلهام لآحاد المؤمنين ، ما قال تعالى :
وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ،
وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه وقد أوحى إلى سائر النبيين ، فيكون هذا الوحي الذي يكون لآحاد الأنبياء والمؤمنين أعلى من أخذ
محمد - صلى الله عليه وسلم - القرآن العظيم عن
جبريل - عليه السلام - لأن
جبريل هو الذي علمه
لمحمد بمنزلة الواحد من هؤلاء .
ولهذا
زعم بعض الصوفية أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء ، وزعم أنه يأخذ من
[ ص: 169 ] المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول ، فجعل أخذه وأخذ الملك الذي جاء إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من معدن واحد ، وادعى أن أخذه عن الله أعلى من أخذ الرسول للقرآن .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية : ومعلوم أن هذا من أعظم الكفر . قال : وهذا القول من جنسه . والآيات القرآنية تدل دلالة صريحة على أن القرآن منزل من الله لا من غيره ، كقوله تعالى
تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم حم تنزيل من الرحمن الرحيم وكذا قوله :
بلغ ما أنزل إليك من ربك .
وأيضا
الكلابية يقولون : أنه معنى واحد فإن كان
موسى سمع جميع المعنى ، فقد سمع جميع كلام الله ، وإن سمع بعضه فقد تبعض ، وكلاهما ينقض عليهم وقولهم فإنهم يقولون أنه معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض فإن كان ما يسمعه
موسى والملائكة هو ذلك المعنى كله ، كان كل من موسى والملائكة سمع جميع كلام الله وكلامه متضمن لجميع خبره وجميع أمره ، فيلزم أن يكون كل واحد ممن كلمه الله تعالى أو أنزل عليه شيئا من كلامه عالما بجميع أخبار الله وأوامره ، وهذا معلوم الفساد بالضرورة ، إن كان الواحد من هؤلاء إنما يسمع بعضه فقد تبعض كلامه ، وذلك مناقض لقولهم .
وأيضا فقول الله تعالى :
وكلم الله موسى تكليما ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا فلما أتاها نودي ياموسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى الآيات دليل على تكليم يسمعه
موسى ، والمعنى المجرد لا يسمع بالضرورة ، ومن قال أنه يسمع فهو مكابر ، ودل الدليل على أنه ناداه والنداء لا يكون إلا صوتا مسموعا فلا يعقل في لغة العرب لفظ النداء لغير صوت مسموع لا حقيقة ولا مجازا كما تقدم
وذكر الإمام
الموفق في البرهان أن الله تعالى لما كلم
موسى - عليه السلام - فناداه ربه يا
موسى فأجاب سريعا استئناسا بالصوت : لبيك لبيك ، أسمع صوتك ، ولا أرى مكانك ، فأين أنت ؟ قال : " يا
موسى ، أنا فوقك ، وعن يمينك ، وعن شمالك ، وأنا أمامك ، وعن ورائك " فعلم أن هذه الصفة لا تكون إلا لله تعالى ، قال : فكذلك أنت يا إلهي ؟ أفكلامك أسمع أم كلام رسولك ؟
[ ص: 170 ] قال : بل كلامي يا
موسى . كما في الخبر .
قال : وجاء في خبر آخر أن
بني إسرائيل قالوا : يا
موسى ، بما شبهت صوت ربك ؟ قال : إنه لا شبه له .
قال وروي أن
موسى عليه السلام لما كلمه ربه ثم سمع كلام الآدميين مقتهم ؛ لما وقر في مسامعه من كلام الله تعالى . قال الإمام
الموفق ، وهذه الأخبار ونحوها ، لم تزل متداولة بين أهل العلم من الصحابة والتابعين يرويها بعضهم عن بعض لم ينكرها منكر فيكون اجتماعا . كذا قال .