المسألة الخامسة عشرة
أنه قال عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005599كلها في النار إلا واحدة وحتم ذلك . وقد تقدم أنه لا يعد من الفرق إلا المخالف في أمر كلي وقاعدة عامة ، ولم ينتظم الحديث - على الخصوص - إلا أهل البدع المخالفين للقواعد ، وأما
من ابتدع في الدين لكنه لم يبتدع ما ينقض أمرا كليا ، أو يخرم أصلا من [ ص: 765 ] الشرع عاما ، فلا دخول له في النص المذكور ، فينظر في حكمه : هل يلحق بمن ذكر أو لا ؟ .
والذي يظهر في المسألة أحد أمرين : إما أن نقول : إن الحديث لم يتعرض لتلك الواسطة بلفظ ولا معنى ، إلا أن ذلك يؤخذ من عموم الأدلة المتقدمة ، كقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005201كل بدعة ضلالة وما أشبه ذلك . وإما أن نقول : إن الحديث وإن لم يكن في لفظه دلالة، ففي معناه ما يدل على قصده في الجملة ، وبيان أنه تعرض لذكر الطرفين الواضحين .
أحدهما : طرف السلامة والنجدة من غير داخلة شبهة ولا إلمام بدعة ، وهو قوله :
ما أنا عليه وأصحابي .
والثاني : طرف الإغراق في البدعة ، وهو الذي تكون فيه البدعة كلية أو تخرم أصلا كليا ، جريا على عادة الله في كتابه العزيز ، لأنه تعالى لما ذكر أهل الخير وأهل الشر ذكر كل فريق منهم بأعلى ما يحمل من خير أو شر ، ليبقى المؤمن فيها بين الطرفين خائفا راجيا ، إذ جعل التنبيه بالطرفين الواضحين ، فإن الخير على مراتب بعضها أعلى من بعض ، والشر على مراتب بعضها أشد من بعض ، فإذا ذكر أهل الخير الذين في أعلى الدرجات خاف أهل الخير الذين دونهم أن لا يلحقوا بهم ، أو رجوا أن يلحقوا بهم ، وإذا ذكر أهل الشر الذين في أسفل المراتب خاف أهل الشر الذين دونهم أن يلحقوا بهم ، أو رجوا أن لا يلحقوا بهم .
وهذا المعنى معلوم بالاستقراء ، وذلك الاستقراء - إذ تم - يدل على
[ ص: 766 ] قصد الشارع إلى ذلك المعنى ، ويقويه ما روى
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور في تفسيره عن
عبد الرحمن بن سابط قال : لما بلغ الناس أن
أبا بكر يريد أن يستخلف
عمر قالوا : ماذا يقول لربه إذا لقيه ؟ استخلف علينا فظا غليظا وهو لا يقدر على شيء فكيف لو قدر . فبلغ ذلك
أبا بكر فقال : أبربي تخوفوني ؟ أقول : استخلفت خير خلقك . ثم أرسل إلى
عمر فقال . إن لله عملا بالليل لا يقبله بالنهار ، وعملا بالنهار لا يقبله بالليل ، واعلم أنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة ، ألم تر أن الله ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم ! وذلك أنه رد عليهم حسنة فلم يقبل منهم حتى يقول القائل : عملي خير من هذا ، ألم تر أن الله أنزل الرغبة والرهبة لكي يرغب المؤمن فيعمل ويرهب ، فلا يلقي بيده إلى التهلكة ؟ ألم تر أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق وتركهم الباطل فثقل عملهم ؟ وحق الميزان لا يوضع فيه إلا حق أن يثقل ؟ ألم تر أنما خفت موزاين من خفت موازينه باتباعهم الباطل وتركهم الحق ؟ وحق الميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف .
ثم قال : أما إن حفظت وصيتي لم يكن غائب أحب إليك من الموت ، وأنت لابد لاقيه ، وإن ضيعت وصيتي لم يكن غائب أبغض إليك من الموت ولا تعجزه .
وهذا الحديث وإن لم يكن هنالك ، ولكن معناه صحيح يشهد له الاستقراء لمن تتبع آيات القرآن الكريم ،
[ ص: 767 ] ويشهد لما تقدم من أن هذا المعنى مقصود استشهاد
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بمثله ، إذ رأى بعض أصحابه وقد اشترى لحما بدرهم : أين تذهب بكم هذه الآية :
أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها . والآية إنما نزلت في الكفار ، لقوله تعالى :
ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم الآية إلى أن قال تعالى :
فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ولم يمنعه - رضي الله عنه - إنزالها في الكفار من الاستشهاد بها في مواضع اعتبارا بما تقدم ، وهو أصل شرعي تبين في كتاب الموافقات .
فالحاصل ، أن من عد الفرق من المبتدعة الابتداع الجزئي لا يبلغ مبلغ أهل البدع في الكليات ، في الذم والتصريح بالوعيد بالنار ، ولكنهم اشتركوا في المعنى المقتضي للذم والوعيد ، كما اشترك في اللفظ صاحب اللحم - حين تناول بعض الطيبات على وجه فيه كراهية ما في اجتهاد
عمر - مع من أذهب طيباته في حياته الدنيا من الكفار ، وإن كان ما بينهما من البون البعيد ، والقرب والبعد من العارف المذموم بحسب ما يظهر من الأدلة للمجتهد . وقد تقدم بسط ذلك في بابه ، والحمد لله .