فصل
قال الله تعالى :
ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون .
روي في سبب نزول هذه الآية أخبار جملتها تدور على معنى واحد ، وهو
تحريم ما أحل الله من الطيبات ؛ تدينا أو شبه التدين ، والله نهى عن ذلك ، وجعله اعتداء ، والله لا يحب المعتدين ، ثم قرر الإباحة تقريرا زائدة على ما تقرر بقوله :
وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ، ثم أمرهم بالتقوى ، وذلك مشعر بأن تحريم ما أحل الله خارج عن درجة التقوى .
فخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12425إسماعيل القاضي من حديث
أبي قلابة ؛ قال :
أراد ناس من [ ص: 418 ] أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا وتركوا النساء وترهبوا ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فغلظ فيهم المقالة ، فقال : إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع ، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وحجوا واعتمروا ، واستقيموا يستقم بكم .
قال : نزلت فيهم : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم .
وفي
الترمذي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ؛ قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005401إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ! إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء ، وأخذتني شهوتي فحرمت علي اللحم ، فأنزل الله الآية .
حديث حسن .
وفي رواية عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما ؛ قال :
نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهم أبو بكر وعمر وعلي nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=5559وعثمان بن مظعون nindex.php?page=showalam&ids=53والمقداد بن الأسود الكندي nindex.php?page=showalam&ids=267وسالم مولى أبي حذيفة ، [ ص: 419 ] اجتمعوا في دار nindex.php?page=showalam&ids=5559عثمان بن مظعون الجمحي ، فتوافقوا أن يجبوا أنفسهم ؛ بأن يعتزلوا النساء ، ولا يأكلوا لحما ولا دسما ، وأن يلبسوا المسوح ، ولا يأكلوا من الطعام إلا قوتا ، وأن يسيحوا في الأرض كهيئة الرهبان .
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمرهم ، فأتى nindex.php?page=showalam&ids=5559عثمان بن مظعون في منزله ، فلم يجده فيه ولا إياهم ، فقال لامرأة عثمان أم حكيم ابنة أبي أمية بن حارثة السلمي : " أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه ؟ " .
قالت : ما هو يا رسول الله ؟
فأخبرها ، فكرهت أن لا تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكرهت أن تبدي على زوجها ، فقالت : إن كان أخبرك عثمان فقد صدق .
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : قولي لزوجك وأصحابه إذا رجعوا : إن رسول الله يقول لكم : إني آكل وأشرب ، وآكل اللحم والدسم ، وأنام وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي ؛ فليس مني .
فلما رجع عثمان وأصحابه أخبرتهم امرأته بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : لقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا فما أعجبه ، فذروا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونزل فيها : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم [ ص: 420 ] قال : من الطعام والشراب والجماع ،
ولا تعتدوا ، قال : في قطع المذاكير ،
إن الله لا يحب المعتدين ؛ قال : الحلال إلى الحرام .
وفي
الصحيح عن
عبد الله ؛ قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005403كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس معنا نساء ، فقلنا : ألا نختصي ؟ فنهانا عن ذلك ، فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب ( إلى أجل ) ؛ يعني ـ والله أعلم ـ : نكاح المتعة المنسوخ .
ثم قرأ nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم
وذكر
إسماعيل عن
nindex.php?page=showalam&ids=17344يحيى بن يعمر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005404أن nindex.php?page=showalam&ids=5559عثمان بن مظعون هم بالسياحة وهو يصوم النهار ويقوم الليل ، وكانت امرأته امرأة عطرة ، فتركت الكحل والخضاب ، فقالت لها امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم : أشهيد أنت أم مغيب ؟ فقالت : بل شهيد ؛ غير أن عثمان لا يريد النساء ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : " أتؤمن بما نؤمن به ؟ " ، قال : نعم ، قال : " فاصنع مثل ما نصنع ، لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم . . . الآية .
وخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور عن
خضير عن
أبي مالك ؛ قال : " نزلت في
nindex.php?page=showalam&ids=5559عثمان بن مظعون وأصحابه ، كانوا حرموا عليهم كثيرا من الطعام والنساء ، وهم بعضهم أن يقطع ذكره ، فأنزل ( الله تعالى ) :
ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا الآية .
[ ص: 421 ] وعن
قتادة ؛ قال : " نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرادوا أن يتخلوا عن الدنيا ، وتركوا النساء ، وترهبوا ؛ منهم
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب nindex.php?page=showalam&ids=5559وعثمان بن مظعون " .
وخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16418ابن المبارك nindex.php?page=hadith&LINKID=1005405أن nindex.php?page=showalam&ids=5559عثمان بن مظعون أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ائذن لي في الاختصاء .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس منا من خصى ولا اختصى ؛ إن اختصاء أمتي الصيام .
قال : يا رسول الله ! ائذن لي في السياحة .
قال : إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله .
قال : يا رسول الله ! ائذن لي في الترهب .
قال : إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة .
وفي الصحيح :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005406رد رسول الله صلى الله عليه وسلم التبتل على nindex.php?page=showalam&ids=5559عثمان بن مظعون ، ولو أذن له ؛ لاختصينا .
[ ص: 422 ] وهذا كله واضح في أن جميع هذه الأشياء تحريم لما هو حلال في الشرع ، وإهمال لما قصد الشارع إعماله ـ وإن كان يقصد سلوك طريق الآخرة ـ ؛ لأنه نوع من الرهبانية في الإسلام .
وإلى
منع تحريم الحلال ذهب الصحابة والتابعون ومن بعدهم ؛ إلا أنه إذا كان التحريم غير محلوف عليه ؛ فلا كفارة ، وإن كان محلوفا عليه ؛ ففيه الكفارة ، ويعمل الحالف بما أحل الله له .
ومن ذلك ما ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=12425إسماعيل القاضي عن
معقل بن مقرن : " أنه سأل
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ، فقال : إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة ، فتلا
عبد الله :
ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا الآية ، ( ادن فكل ) وكفر عن يمينك ، ونم على فراشك .
وفي رواية : " كان
معقل يكثر الصوم والصلاة ، فحلف أن لا ينام على فراشه ، فأتى
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ( رضي الله عنه ) ، فسأله عن ذلك ؟ فقرأ عليه الآية .
وعن
المغيرة ؛ قال : " قلت
لإبراهيم في هذه الآية :
لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ، أهو الرجل يحرم الشيء مما أحل الله له ؟ قال : نعم .
وعن
مسروق ؛ قال : " أتي
عبد الله بضرع ، فقال للقوم : ادنوا ، فأخذوا يطعمون ، فقال رجل : إني حرمت الضرع ، فقال
عبد الله : هذا
[ ص: 423 ] ( من ) خطوات الشيطان ،
ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ، ادن فكل وكفر عن يمينك .
وعلى ذلك جرت الفتيا في الإسلام ؛ أن
كل من حرم على نفسه شيئا مما أحل الله ؛ له فليس ذلك التحريم بشيء ؛ فليأكل إن كان مأكولا ، وليشرب إن كان مشروبا ، وليلبس إن كان ملبوسا ، وليملك إن كان مملوكا ، وكأنه إجماع منهم منقول عن
مالك وأبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي وغيرهم ، واختلفوا في الزوجة ، ومذهب
مالك أن التحريم طلاق كالطلاق الثلاث ، وما سوى ذلك فهو باطل ؛ لأن القرآن شهد بكونه اعتداء ، حتى إنه إن حرم على نفسه وطء أمة غيره قاصدا به العتق ؛ فوطؤها حلال ، وكذلك سائر الأشياء من اللباس والمسكن والصمت والاستظلال والاستضحاء . . .
وقد تقدم الحديث في
الناذر للصوم قائما في الشمس ساكتا ؛ فإنه تحريم للجلوس والاستظلال والكلام ، والنبي صلى الله عليه وسلم أمره بالجلوس والتكلم والاستظلال .
قال
مالك : " أمره ليتم ما كان له فيه طاعة ، ويترك ما كان عليه فيه معصية " .
فتأملوا كيف جعل
مالك ترك الحلال معصية ! وهو مقتضى الآية في قوله تعالى :
ولا تعتدوا الآية ، ومقتضى قول
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود رضي الله عنه لصاحب الضرع : " هذا من خطوات الشيطان " .
وقد ضعف
ابن رشد الحفيد الاستدلال من المالكية بالحديث ،
[ ص: 424 ] وتفسير
مالك له ، وذكر أن قوله في الحديث : " ويترك ما كان عليه فيه معصية " ليس بالظاهر أن ترك الكلام معصية ، وقد أخبر الله تعالى أنه نذر
مريم .
قال : " وكذلك يشبه أن يكون القيام للشمس ليس معصية ؛ إلا ما يتعلق من جهة تعب الجسم والنفس ، وقد يستحب للحاج أن لا يستظل ، فإن قيل : فيه معصية ؛ فالقياس على ما نهي عنه من التعب لا بالنص ، والأصل فيه أنه من المباحات " .
وما قاله
ابن رشد غير ظاهر ، ولم يقل
مالك في الحديث ما قال استنباطا منه ، بل الظاهر أنه استدل بالآية المتكلم فيها ، وحمل الحديث عليها ، فترك الكلام ، وإن كان في الشرائع الأولى مشروعا ؛ فهو منسوخ بهذه الشريعة ، فهو عمل في مشروع بغير مشروع ، وكذلك القيام في الشمس زيادة من باب تحريم الحلال ، وإن استحب في موضع ؛ فلا يلزم استحبابه في آخر .