وأما النقل; فمن وجوه :
أحدهما :
ما جاء في القرآن الكريم مما يدل على ذم من ابتدع في دين الله في الجملة :
فمن ذلك قول الله تعالى : (
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله ) .
فهذه الآية أعظم الشواهد ، وقد جاء في الحديث تفسيرها :
فصح من حديث
عائشة رضي الله عنها أنها قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005191سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) ؟ قال : فإذا رأيتهم فاعرفيهم .
وصح عنها أنها قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005192سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب ) إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 71 ] إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله; فاحذروهم .
وهذا التفسير مبهم .
ولكنه جاء في رواية عن
عائشة أيضا ، قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005193تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات ) الآية قال : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله ، فاحذروهم .
وهذا أبين ، لأنه جعل علامة الزيغ الجدال في القرآن ، وهذا الجدال مقيد باتباع المتشابه .
فإذا ، الذم إنما لحق من جادل فيه بترك المحكم - وهو أم الكتاب ومعظمه ، والتمسك بمتشابهه .
ولكنه بعد مفتقر إلى تفسير أظهر .
فجاء عن
أبي غالب واسمه حزور قال :
كنت بالشام ، فبعث المهلب سبعين رأسا من الخوارج ، فنصبوا على درج دمشق ، فكنت على ظهر بيت لي فمر أبو أمامة فنزلت فاتبعته ، فلما وقف عليهم دمعت عيناه وقال : سبحان الله ! ما يصنع السلطان ببني آدم ! قالها ثلاثا كلاب جهنم ، كلاب جهنم ، شر قتلى تحت ظل السماء ثلاث مرات ، [ ص: 72 ] خير قتلى من قتلوه ، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه .
ثم التفت إلي ، فقال : أبا غالب ! إنك بأرض هم بها كثير ، فأعاذك الله منهم .
قلت : رأيتك بكيت حين رأيتهم .
قال : بكيت رحمة حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام ، هل تقرأ سورة آل عمران ؟ قلت : نعم .
فقرأ : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ) حتى بلغ : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) وإن هؤلاء كان في قلوبهم زيغ ، فزيغ بهم .
ثم قرأ : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) إلى قوله ( ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) .
قلت : هم هؤلاء يا أبا أمامة ؟
قال : نعم .
قلت : من قبلك تقول أو شيء سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم ؟
قال : إني إذا لجريء ، بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا مرة ، ولا مرتين حتى عد سبعا .
[ ص: 73 ] ثم قال : إن بني إسرائيل تفرقوا على إحدى وسبعين فرقة ، وإن هذه الأمة تزيد عليها فرقة ، كلها في النار; إلا السواد الأعظم .
قلت : يا أبا أمامة ! ألا ترى ما فعلوا ؟
قال : ( عليه ما حمل وعليكم ما حملتم ) الآية .
خرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12425إسماعيل القاضي وغيره .
وفي رواية; قال : قال : ألا ترى ما فيه السواد الأعظم وذلك في أول خلافة
عبد الملك والقتل يومئذ ظاهر ؟ قال : (
عليه ما حمل وعليكم ما حملتم ) .
وخرجه
الترمذي مختصرا ، وقال فيه : " حديث حسن " .
وخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=14695الطحاوي أيضا باختلاف في بعض الألفاظ وفيه : " فقيل له : يا
أبا أمامة ! تقول لهم هذا القول ثم تبكي يعني قوله : شر قتلى إلى آخره ؟ ! قال : رحمة لهم; إنهم كانوا من أهل الإسلام ، فخرجوا منه ، ثم تلا : (
هو الذي أنزل عليك الكتاب ) حتى ختمها ، ثم قال : هم هؤلاء ، ثم تلا هذه الآية : (
يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ) حتى ختمها . ثم قال : هم هؤلاء .
وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=13652الآجري عن
nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس ; قال : " ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=11لابن عباس الخوارج وما
[ ص: 74 ] يصيبهم عند قراءة القرآن ، فقال : يؤمنون بمحكمه ، ويضلون عند متشابهه . وقرأ : (
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ) .
فقد ظهر بهذا التفسير أنهم أهل البدع; لأن
أبا أمامة رضي الله عنه جعل
الخوارج داخلين في عموم الآية ، وأنها تتنزل عليهم ، وهم من أهل البدع عند العلماء : إما على أنهم خرجوا ببدعتهم عن أهل الإسلام ، وإما على أنهم من أهل الإسلام لم يخرجوا عنهم; على اختلاف العلماء فيهم . وجعل هذه الطائفة ممن في قلوبهم زيغ فزيغ بهم ، وهذا الوصف موجود في أهل البدع كلهم .
مع أن لفظ الآية عام فيهم وفي غيرهم ممن كان على صفاتهم ، ألا ترى أن صدر هذه السورة إنما نزل في
نصارى نجران ومناظرتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اعتقادهم في عيسى عليه السلام ، حيث تأولوا عليه أنه الإله أو أنه ابن الله أو أنه ثالث ثلاثة ، بأوجه متشابهة ، وتركوا ما هو الواضح في عبوديته حسبما نقله أهل السير ؟ !
ثم تأوله العلماء من السلف الصالح على قضايا دخل أصحابها تحت حكم اللفظ;
كالخوارج فهي ظاهرة في العموم .
ثم تلا
أبو أمامة الآية الأخرى ، وهي قوله سبحانه : (
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) إلى قوله : (
ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) ، وفسرها بمعنى ما فسر به الآية الأخرى ،
[ ص: 75 ] فهي الوعيد والتهديد لمن تلك صفته ، ونهى المؤمنين أن يكونوا مثلهم .
ونقل
عبيد عن حميد بن مهران قال : سألت
الحسن كيف يصنع أهل هذه الأهواء الخبيثة بهذه الآية في آل عمران : (
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) قال : نبذوها ورب
الكعبة وراء ظهورهم .
وعن
أبي أمامة أيضا قال : هم
الحرورية .
وقال
ابن وهب : سمعت
مالكا يقول : ما آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية : (
يوم تبيض وجوه ) إلى قوله : (
بما كنتم تكفرون ) قال
مالك : فأي كلام أبين من هذا ؟ ! فرأيته يتأولها لأهل الأهواء .
ورواه
ابن القاسم ، وزاد : قال لي
مالك : إنما هذه الآية لأهل القبلة .
وما ذكره في الآية قد نقل عن غير واحد; كالذي تقدم
للحسن .
وعن
قتادة في قوله تعالى : (
كالذين تفرقوا واختلفوا ) يعني أهل البدع .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله : (
يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ) قال : " تبيض وجوه
أهل السنة ، وتسود وجوه أهل البدعة .
ومن الآيات قوله تعالى :
[ ص: 76 ] (
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) .
فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه ، وهو السنة ، والسبل هي سبل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم ، وهم أهل البدع ، وليس المراد سبل المعاصي; لأن المعاصي من حيث هي معاص لم يضعها أحد طريقا تسلك دائما على مضاهاة التشريع ، وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات .
ويدل على هذا ما روى
إسماعيل عن
nindex.php?page=showalam&ids=16039سليمان بن حرب ، قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15743حماد بن زيد عن
nindex.php?page=showalam&ids=16273عاصم بن بهدلة عن
أبي وائل عن
عبد الله قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005195 " خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا طويلا ، وخط لنا سليمان خطا طويلا ، وخط عن يمينه وعن يساره ، فقال : هذا سبيل الله ثم خط لنا خطوطا عن يمينه ويساره وقال : هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم تلا هذه الآية : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل ) يعني الخطوط ( فتفرق بكم عن سبيله ) .
قال
بكر بن العلاء : " أحسبه أراد شيطانا من الإنس ، وهي البدع ، والله أعلم " .
وعن
عمر بن سلمة الهمداني ; قال : " كنا جلوسا في حلقة
[ ص: 77 ] nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود في المسجد وهو
بطحاء قبل أن يحصب ، فقال له
عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، وكان أتى غازيا : ما الصراط المستقيم يا
أبا عبد الرحمن ؟ قال : هو ورب
الكعبة الذي ثبت عليه أبوك حتى دخل الجنة .
ثم حلف على ذلك ثلاث أيمان ولاء ، ثم خط في
البطحاء خطا بيده ، وخط بجنبيه خطوطا ، وقال : ترككم نبيكم صلى الله عليه وسلم على طرفه ، وطرفه الآخر في الجنة ، فمن ثبت عليه ، دخل الجنة ، ومن أخذ في هذه الخطوط هلك .
وفي رواية : " يا
أبا عبد الرحمن ! ما الصراط المستقيم ؟ قال : تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدناه ، وطرفه في الجنة ، وعن يمينه جواد وعن يساره جواد ، وعليها رجال يدعون من مر بهم : هلم لك ! هلم لك ! فمن أخذ منهم في تلك الطرق; انتهت به إلى النار ، ومن استقام إلى الطريق الأعظم; انتهى به إلى الجنة ، ثم تلا
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : (
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ) الآية كلها .
وعن
مجاهد في قوله : (
ولا تتبعوا السبل ) ، قال : البدع والشبهات .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16349عبد الرحمن بن مهدي : " قد سئل
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك بن أنس عن السنة ؟ قال : هي ما لا اسم له غير السنة ، وتلا : (
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) .
قال
بكر بن العلاء : يريد إن شاء الله حديث
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود nindex.php?page=hadith&LINKID=1005196أن النبي [ ص: 78 ] صلى الله عليه وسلم خط له خطا ، وذكر الحديث .
فهذا التفسير يدل على شمول الآية لجميع طرق البدع ، لا تختص ببدعة دون أخرى .
ومن الآيات قول الله تعالى : (
وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين ) .
فالسبيل القصد هو طريق الحق ، وما سواه جائر عن الحق; أي : عادل عنه ، وهي طرق البدع والضلالات ، أعاذنا الله من سلوكها بفضله ، وكفى بالجائر أن يحذر منه ، فالمساق يدل على التحذير والنهي .
وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=13629ابن وضاح ; قال : " سئل
nindex.php?page=showalam&ids=16273عاصم بن بهدلة ، وقيل له :
أبا بكر ! ، هل رأيت قول الله تعالى : (
وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين ) ؟ قال : حدثنا
أبو وائل عن
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود ; قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005197خط عبد الله خطا مستقيما ، و خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن شماله ، فقال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا ، فقال للخط المستقيم : هذا سبيل الله ، وللخطوط التي عن يمينه وشماله : هذه سبل متفرقة ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ; والسبيل مشتركة; قال الله تعالى : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ) إلى آخرها .
عن
التستري : (
قصد السبيل ) : طريق السنة ، (
ومنها جائر ) ;يعني : إلى النار ، وذلك الملل والبدع " .
وعن
مجاهد : (
قصد السبيل ) ; أي المقتصد منها بين الغلو
[ ص: 79 ] والتقصير ، وذلك يفيد أن الجائر هو الغالي أو المقصر ، وكلاهما من أوصاف البدع .
وعن
علي رضي الله عنه أنه كان يقرؤها : " فمنكم جائر " ; قالوا : يعني هذه الأمة ، فكأن هذه الآية مع الآية قبلها يتواردان على معنى واحد .
ومنها قوله تعالى : (
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) .
هذه الآية قد جاء تفسيرها في الحديث من طريق
عائشة رضي الله عنها ، قالت :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) من هم ؟
قلت : الله ورسوله أعلم .
قال : " هم أصحاب الأهواء ، وأصحاب البدع ، وأصحاب الضلالة; من هذه الأمة ، يا عائشة إن لكل ذنب توبة ، ما خلا أصحاب الأهواء والبدع ، ليس لهم توبة ، وأنا بريء منهم وهم مني برآء . ؟ .
قال
ابن عطية : " هذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في
[ ص: 80 ] الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام ، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد .
ويريد والله أعلم بأهل التعمق في الفروع ما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=13332أبو عمر بن عبد البر في فصل ذم الرأي من " كتاب العلم " له ، وسيأتي ذكره بحول الله .
وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=12997ابن بطال في شرح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
أبي حنيفة أنه قال : لقيت
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء بن أبي رباح بمكة ، فسألته عن شيء ؟ فقال : من أين أنت ؟ قلت : من
أهل الكوفة ، قال : أنت من أهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ؟ قلت : نعم ، قال : من أي الأصناف أنت ؟ ، قلت : ممن لا يسب السلف ، ويؤمن بالقدر ولا يكفر أحدا بذنب ، فقال
عطاء : عرفت فالزم .
وعن
الحسن ، قال :
خرج علينا nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان رضي الله عنه يوما يخطبنا ، فقطعوا عليه كلامه ، فتراموا بالبطحاء ، حتى جعلت ما أبصر أديم السماء .
قال : وسمعنا صوتا من بعض حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل : هذا صوت أم المؤمنين !
قال : فسمعتها وهي تقول : ألا إن نبيكم قد برئ ممن فرق دينه واحتزب ، وتلت : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) .
قال
القاضي إسماعيل : " أحسبه يعني بقوله : أم المؤمنين :
nindex.php?page=showalam&ids=54أم سلمة ، وأن ذلك قد ذكر في بعض الحديث ، وقد كانت
عائشة في ذلك
[ ص: 81 ] الوقت حاجة .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة أنها نزلت في هذه الأمة .
وعن
أبي أمامة : هم
الخوارج .
قال القاضي : " ظاهر القرآن يدل على أن كل من ابتدع في الدين بدعة من
الخوارج وغيرهم; فهو داخل في هذه الآية; لأنهم إذا ابتدعوا تجادلوا وتخاصموا وتفرقوا وكانوا شيعا .
ومنها قوله تعالى : (
ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ) . قرئ : " فارقوا دينهم " .
وفسر عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة أنهم
الخوارج . ورواه
أبو أمامة مرفوعا .
وقيل : هم أصحاب الأهواء والبدع .
قالوا : روته
عائشة رضي الله عنها مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وذلك لأن هذا شأن من ابتدع; حسبما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12425إسماعيل القاضي ، وكما تقدم في الآي الأخر .
ومنها قوله تعالى : (
قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) .
[ ص: 82 ] فعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أن لبسكم شيعا هو الأهواء المختلفة .
ويكون على هذا قوله : (
ويذيق بعضكم بأس بعض ) : تكفير البعض للبعض حتى يتقاتلوا ، كما جرى
للخوارج حين خرجوا على
أهل السنة والجماعة .
وقيل : معنى (
أو يلبسكم شيعا ) : ما فيه إلباس من الاختلاف .
وقال
مجاهد وأبو العالية : " إن الآية لأمة
محمد صلى الله عليه وسلم " .
قال
أبو العالية : " هن أربع ، ظهر اثنتان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة : فألبسوا شيعا ، وأذيق بعضكم بأس بعض ، وبقيت اثنتان ، فهما ولا بد واقعتان ، الخسف من تحت أرجلكم ، والمسخ من فوقكم " .
وهذا كله صريح في أن اختلاف الأهواء مكروه غير محبوب ، ومذموم غير محمود .
وفيما نقل عن
مجاهد في قول الله : (
ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) :
قال في المختلفين : إنهم أهل الباطل .
(
إلا من رحم ربك ) ; قال : " فإن أهل الحق ليس فيهم اختلاف " .
وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=17098مطرف بن الشخير : أنه قال : " لو كانت الأهواء كلها
[ ص: 83 ] واحدا; لقال القائل : لعل الحق فيه ! فلما تشعبت وتفرقت; عرف كل ذي عقل أن الحق لا يتفرق .
وعن عكرمة (
ولا يزالون مختلفين ) يعني في الأهواء (
إلا من رحم ربك ) هم
أهل السنة .
ونقل
أبو بكر ثابت الخطيب عن
منصور بن عبد الله بن عبد الرحمن ; قال : كنت جالسا عند
الحسن ورجل خلفي قاعد ، فجعل يأمرني أن أسأله عن قول الله : (
ولا يزالون مختلفين ) قال : نعم (
لا يزالون مختلفين ) على أديان شتى (
إلا من رحم ربك ) ، فمن رحم غير مختلف .
وروى
ابن وهب عن
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز ،
nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك بن أنس : أن أهل الرحمة لا يختلفون .
ولهذه الآية بسط يأتي بعد إن شاء الله .
وفي
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
عمرو عن
مصعب ; قال : " سألت أبي عن قوله تعالى : (
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ) ; هم
الحرورية ؟ قال : لا ; هم
اليهود والنصارى ، أما
اليهود ; فكذبوا
محمدا صلى الله عليه وسلم ، وأما
النصارى فكذبوا بالجنة ، وقالوا : لا طعام فيها ولا شراب .
والحرورية (
الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) .
[ ص: 84 ] وكان
شعبة يسميهم الفاسقين .
وفي تفسير
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17092مصعب بن سعد ، قال : قلت لأبي : (
الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) ; أهم
الحرورية ؟ قال : لا ! أولئك أصحاب الصوامع ، ولكن
الحرورية الذين قال الله فيهم : (
فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) .
وخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد في ( تفسيره ) هذا المعنى بلفظ آخر عن
nindex.php?page=showalam&ids=17092مصعب بن سعد ، فأتى على هذه الآية : (
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ) إلى قوله : (
يحسنون صنعا ) ، قلت : أهم
الحرورية ؟ قال : لا ; هم
اليهود والنصارى ، أما
اليهود فكفروا
بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأما
النصارى ; فكفروا بالجنة ، وقالوا : ليس فيها طعام ولا شراب ، ولكن
الحرورية : (
الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض )
فالأول : لأنهم خرجوا عن طريق الحق بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم تأولوا التأويلات الفاسدة ، وكذا فعل المبتدعة وهو بابهم الذي دخلوا فيه .
والثاني : لأنهم تصرفوا في أحكام القرآن والسنة هذا التصرف .
فأهل حروراء وغيرهم من
الخوارج قطعوا قوله تعالى : (
إن الحكم إلا لله )
[ ص: 85 ] عن قوله : (
يحكم به ذوا عدل ) وغيرهما ، وكذا فعل سائر المبتدعة حسبما يأتيك بحول الله .
ومنه [ ما ] روى
عمرو بن مهاجر ; قال : " بلغ
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن
غيلان القدري يقول في القدر ، فبعث إليه ، فحجبه أياما ، ثم أدخله عليه فقال : يا
غيلان ! ما هذا الذي بلغني عنك ؟ " .
قال
عمرو بن مهاجر : " فأشرت إليه ألا يقول شيئا " .
قال : " فقال : نعم يا أمير المؤمنين : إن الله عز وجل يقول : (
هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ) .
قال
عمر : اقرأ إلى آخر السورة : (
وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما ) .
ثم قال : ما تقول يا
غيلان ؟
قال أقول : قد كنت أعمى فبصرتني ، وأصم فأسمعتني ، وضالا فهديتني .
[ ص: 86 ] فقال
عمر : اللهم إن كان عبدك غيلان صادقا ، وإلا فاصلبه " .
قال فأمسك عن الكلام في القدر ، فولاه
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز دار الضرب
بدمشق ، فلما مات
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز وأفضت الخلافة إلى
هشام ; تكلم في القدر ، فبعث إليه
هشام ، فقطع يده ، فمر به رجل والذباب على يده ، فقال : يا
غيلان ! هذا قضاء وقدر . قال : كذبت - لعمر الله - ما هذا قضاء ولا قدر; فبعث إليه
هشام فصلبه " .
والثالث : لأن
الحرورية جردوا السيوف على عباد الله ، وهو غاية الفساد في الأرض ، وذلك كثير من أهل البدع شائع ، وسائرهم يفسدون بوجوه من إيقاع العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام .
وهذه الأوصاف الثلاثة تقتضيها الفرقة التي نبه عليها الكتاب والسنة :
كقوله تعالى : (
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ) وقوله تعالى : (
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) .
وأشباه ذلك .
وفي الحديث : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005200إن الأمة تتفرق على بضع وسبعين فرقة " .
وهذا التفسير في الرواية الأولى
لمصعب بن سعد أيضا ، فقد وافق أباه على المعنى المذكور .
ثم فسر
nindex.php?page=showalam&ids=37سعد بن أبي وقاص في رواية
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور : أن ذلك بسبب
[ ص: 87 ] الزيغ الحاصل فيهم ، وذلك قوله تعالى : (
فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) ، وهو راجع إلى آية آل عمران في قوله : (
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ) . الآية; فإنه رضي الله عنه أدخل
الحرورية في الآيتين بالمعنى ، وهو الزيغ في إحداهما ، والأوصاف المذكورة في الأخرى; لأنها فيهم موجودة .
فآية الرعد تشمل [
الحرورية ] بلفظها; لأن اللفظ فيها يقتضي العموم لغة ، وإن حملناها على الكفار خصوصا; فهي تعطي أيضا فيهم حكما من جهة ترتيب الجزاء على الأوصاف المذكورة حسبما هو مبين في الأصول .
وكذلك آية الصف; لأنها خاصة بقوم
موسى عليه السلام ، ومن هنا كان
شعبة يسميهم الفاسقين أعني :
الحرورية لأن معنى الآية واقع عليهم ، وقد جاء فيها : (
والله لا يهدي القوم الفاسقين ) ، والزيغ أيضا كان موجودا فيهم ، فدخلوا في معنى قوله : (
فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) ، ومن هنا يفهم أنها لا تختص من أهل البدعة
بالحرورية ، بل تعم كل من اتصف بتلك الأوصاف التي أصلها الزيغ ، وهو الميل عن الحق اتباعا للهوى .
وإنما فسرها
سعد رضي الله عنه
بالحرورية ; لأنه إنما سئل عنهم على الخصوص ، والله أعلم; لأنهم أول من ابتدع في دين الله ، فلا يقتضي ذلك تخصيصا .
[ ص: 88 ] وأما المسئول عنها أولا وهي آية الكهف فإن
سعدا نفى أن تشمل
الحرورية .
وقد جاء عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فسر ( الأخسرين أعمالا )
بالحرورية أيضا .
فروى
عبد بن حميد عن أبي الطفيل ; قال : " قام
ابن الكواء إلى
علي ، فقال : يا أمير المؤمنين ! من
الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ؟
قال : منهم
أهل حروراء " .
وهو أيضا منقول في " تفسير
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري " .
وفي "
جامع ابن وهب " : " أنه سأله عن الآية ؟ فقال له : ارق إلي أخبرك وكان على المنبر فرقي إليه درجتين ، فتناوله بعصا كانت في يده ، فجعل يضربه بها ، ثم قال له
علي : أنت وأصحابك " .
وخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد أيضا عن
nindex.php?page=showalam&ids=16932محمد بن جبير بن مطعم ; قال : أخبرني رجل من
بني أود : " أن
عليا خطب الناس
بالعراق وهو يسمع ، فصاح به
ابن الكواء من أقصى المسجد ، فقال : يا أمير المؤمنين ! من ( الأخسرين أعمالا ) ؟ قال : أنت ، فقتل ابن الكواء يوم
الخوارج " .
ونقل بعض أهل التفسير : " أن
ابن الكواء سأله ؟ فقال : أنتم
أهل حروراء ، وأهل الرياء ، والذين يحبطون الصنيعة بالمنة " .
فالرواية الأولى تدل على أن
أهل حروراء بعض من شملته الآية .
[ ص: 89 ] ولما قال سبحانه في وصفهم : (
الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ) ; وصفهم بالضلال مع ظن الاهتداء ، دل على أنهم المبتدعون في أعمالهم عموما ، كانوا من أهل الكتاب أولا ، من حيث قال النبي :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005201كل بدعة ضلالة وسيأتي شرح ذلك بعون الله .
فقد يجتمع التفسيران في الآية ، تفسير سعد بأنهم
اليهود والنصارى ، وتفسير علي بأنهم أهل البدعة; لأنهم قد اتفقوا على الابتداع ، ولذلك فسر كفر
النصارى بأنهم تأولوا في الجنة غير ما هي عليه ، وهو التأويل بالرأي .
فاجتمعت الآيات الثلاث على ذم البدعة وأهلها ، وأشعر كلام
nindex.php?page=showalam&ids=37سعد بن أبي وقاص بأن كل آية اقتضت وصفا من أوصاف المبتدعة ، فهم مقصدون بما فيها من الذم والخزي وسوء الجزاء ، إما بعموم اللفظ ، وإما بمعنى الوصف .
وروى
ابن وهب nindex.php?page=hadith&LINKID=1005202أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بكتاب في كتف فقال : " كفى بقوم حمقا أو قال : ضلالا أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى غير نبيهم ، أو كتاب إلى غير كتابهم " فنزلت : ( أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ) .
وخرج
عبد الحميد عن
الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005189من [ ص: 90 ] رغب عن سنتي فليس مني " ، ثم تلا هذه الآية : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) إلى آخر الآية .
وخرج هو وغيره عن
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس رضي الله عنه في قول الله : (
علمت نفس ما قدمت وأخرت ) ; قال : " ما قدمت من عمل خير أو شر ، وما أخرت من سنة يعمل بها من بعده " .
وهذا التفسير قد يحتاج إلى تفسير ، فروي عن
عبد الله ; قال : " ما قدمت من خير ، وما أخرت من سنة صالحة يعمل بها من بعدها ، فإن له مثل أجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، وما أخرت من سنة سيئة ، كان عليه مثل وزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا " .
خرجه
ابن مبارك وغيره .
وجاء عن
nindex.php?page=showalam&ids=16008سفيان بن عيينة و
أبي قلابة وغيرهما أنهم قالوا : " كل صاحب بدعة أو فرية ذليل " ، واستدلوا بقول الله تعالى : (
إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين ) .
وخرج
ابن وهب عن
مجاهد في قول الله : (
إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم ) ; يقول : " ما قدموا من خير ، وآثارهم التي
[ ص: 91 ] أورثوا الناس بعدهم من الضلالة .
وخرج أيضا عن
ابن عون ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16972محمد بن سيرين أنه قال : إني أرى أسرع الناس ردة ، أصحاب الأهواء " .
قال
ابن عون : " وكان
nindex.php?page=showalam&ids=16972ابن سيرين يرى أن هذه الآية في أصحاب الأهواء : (
وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ) .
وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=13652الآجري عن
أبي الجوزاء أنه ذكر أصحاب الأهواء فقال : " والذي نفس
أبي الجوزاء بيده; لأن تمتلئ داري قردة وخنازير أحب إلي من أن يجاورني رجل منهم ، ولقد دخلوا في هذه الآية : (
ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله ) إلى قوله : (
إن الله عليم بذات الصدور ) .
والآيات المصرحة والمشيرة إلى ذمهم والنهي عن ملابسة أحوالهم كثيرة ، فلنقتصر على ما ذكرنا ، ففيه إن شاء الله الموعظة لمن اتعظ ، والشفاء لما في الصدور .