ولنقتصر على عشرة أمثلة للمصالح المرسلة أحدها : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا على
جمع المصحف ، وليس ثم نص على جمعه وكتبه أيضا ، بل قد قال بعضهم : كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=47زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ قال : أرسل إلي
أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ مقتل
( أهل ) اليمامة ، وإذا عنده
عمر ـ رضي الله عنه ـ قال
أبو بكر : ( إن
عمر أتاني فقال ) : إن القتل قد استحر بقراء القرآن يوم
اليمامة ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن . قال : فقلت له : كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال لي : هو ـ والله ـ خير .
فلم يزل
عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري له ، ورأيت فيه الذي رأى
عمر .
قال زيد : فقال
أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه . قال
زيد : فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي
[ ص: 613 ] من ذلك . فقلت : كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال
أبو بكر : هو والله خير ، فلم يزل يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح صدريهما فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاق والعسب واللخاف ، ومن صدور الرجال .
فهذا عمل لم ينقل فيه خلاف عن أحد من الصحابة .
ثم روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك أن
nindex.php?page=showalam&ids=21حذيفة بن اليمان كان يغازي أهل
الشام وأهل
العراق في فتح
أرمينية وأذربيجان ، فأفزعه اختلافهم في القرآن ، فقال
لعثمان : يا أمير المؤمنين ! أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلفت اليهود والنصارى ، فأرسل
عثمان إلى
حفصة : أرسلي إلي بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها عليك ، فأرسلت
حفصة بها إلى عثمان ، فأرسل
عثمان إلى
nindex.php?page=showalam&ids=47زيد بن ثابت ، وإلى
عبد الله بن الزبير ،
nindex.php?page=showalam&ids=74وسعيد بن العاص ،
nindex.php?page=showalam&ids=16334وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فأمرهم أن ينسخوا الصحف في المصاحف ، ثم قال للرهط القرشيين الثلاثة : ما اختلفتم فيه أنتم
nindex.php?page=showalam&ids=47وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان
قريش ، فإنه نزل بلسانهم .
قال : ففعلوا ، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ،
بعث عثمان في كل أفق بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوها ، ثم أمر بما سوى ذلك من القراءة في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق .
فهذا أيضا إجماع آخر في كتبه وجمع الناس على قراءة لم يحصل
[ ص: 614 ] فيها في الغالب اختلاف . لأنهم لم يختلفوا إلا في القراءات ـ حسبما نقله العلماء المعتنون بهذا الشأن ـ فلم يخالف في المسألة إلا
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود فإنه امتنع من طرح ما عنده من القراءة المخالفة لمصاحف عثمان ، وقال : يا أهل
العراق ! ويا أهل
الكوفة : اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها ، فإن الله يقول :
ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة وألقوا إليه بالمصاحف .
فتأمل كلامه فإنه لم يخالف في جمعه ، وإنما خالف أمرا آخر ؛ ومع ذلك فقد قال
ابن هشام : بلغني أنه كره ذلك من قول
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود رجال من أفاضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولم يرد نص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما صنعوا من ذلك ، ولكنهم رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعا ، فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة ، والأمر بحفظها معلوم ، وإلى منع الذريعة للاختلاف في أصلها الذي هو القرآن ، وقد علم النهي عن الاختلاف في ذلك بما لا مزيد عليه .
وإذا استقام هذا الأصل فاحمل عليه كتب العلم من السنن وغيرها ، إذا خيف عليها الاندراس ، زيادة على ما جاء في الأحاديث من الأمر بكتب العلم .
وأنا أرجو أن يكون كتب هذا الكتاب الذي وضعت يدي فيه من هذا القبيل ، لأني رأيت باب البدع في كلام العلماء مغفلا جدا ؛ إلا من النقل
[ ص: 615 ] الجلي ؛ كما نقل
nindex.php?page=showalam&ids=13629ابن وضاح ، أو يؤتى بأطراف من الكلام لا يشفي الغليل بالتفقه فيه كما ينبغي ، ولم أجد على شدة بحثي عنه إلا ما وضع فيه
nindex.php?page=showalam&ids=14703أبو بكر الطرطوشي ، وهو يسير في جنب ما يحتاج إليه فيه ، وإلا ما وضع الناس في الفرق الثنتين والسبعين ، وهو فصل من فصول الباب وجزء من أجزائه ، فأخذت نفسي بالعناء فيه ، عسى أن ينتفع به واضعه ، وقارؤه ، وناشره ، وكاتبه ، والمنتفع به ، وجميع المسلمين . إنه ولي ذلك ومسديه بسعة رحمته .