أول ظهور الشرك
وأول ما ظهر الشرك في قوم
نوح على المشهور ، وقد كان بنو آدم على ملة أبيهم عليه السلام نحو عشرة قرون كما قدمنا ، وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وغيره في
[ ص: 460 ] تفسير قوله عز وجل : (
كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ( البقرة : 213 ) ، وذلك لأن الشيطان لعنه الله لم يزل دائبا جادا مشمرا في عداوة بني آدم عليه السلام منذ كان أبوهم طينا فلما نفخ الله فيه الروح وعلمه الأسماء كلها وأمر الملائكة بالسجود له فسجدوا كلهم إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين . (
قال أأسجد لمن خلقت طينا ) ( الإسراء : 61 ) وقال تعالى : (
لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون ) ( الحجر : 26 ) فلما سأله الله عز وجل عن سبب امتناعه من السجود واستكباره عن أمر ربه - والله تعالى أعلم به - فقال سبحانه له : (
ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) ( الأعراف : 12 ) فأجاب الخبيث مفتخرا بأصله طاعنا على ربه تعالى في حكمته وعدله : (
قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) ( الأعراف : 12 ) فعامله الجبار بنقيض ما قصده وأذاقه وبال حسده ، وأثمر له استكباره الذل الأبدي الذي لا عز بعده ، (
قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين ) ( الأعراف : 13 ) وقال : (
اخرج منها مذءوما مدحورا ) ( الأعراف : 18 ) الآية .
وقال : (
فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين ) ( الحجر : 34 - 35 ) فطلب الإنظار ليأخذ بزعمه من
آدم وذريته بالثأر ، ولا يعلم أنه بذلك إنما يزداد من غضب الجبار ، وقد علم أنه لا سبيل له إلا على حزبه وتابعيه من الكفار الذين هو إمامهم في الخروج عن طاعة الله والاستكبار : (
قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ) ( ص : 79 - 80 ) أجابه الله تعالى إلى طلبته ليمتحن عباده اختبارا وابتلاء : (
ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) ( الملك : 2 ) فقابل النعمة بالكفران ، وجدد صفقة الخسران ، وأقسم ليستعملن
[ ص: 461 ] مدته وليستغرقن حياته في إغواء ذرية
آدم الذين كان طرده وإبعاده بسببهم ، إذ لم يسجد لأبيهم ولا رأى أن ذلك باستكباره عن أمر ربه ، بل قدس نفسه اللئيمة وأسند الإغواء إلى ربه مخاصمة ومحادة ومشاقة ، (
قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين ) ( الأعراف : 16 - 17 ) ولم يقل اللعين من فوقهم لعلمه أن الله تعالى من فوقهم ، قال الله سبحانه : (
هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) ( الحجر : 42 ) .
وقد علم الرجيم ذلك فقال آيسا منهم : (
إلا عبادك منهم المخلصين ) ( الحجر : 40 ) ثم لما سعى إلى
آدم وحواء زوجه في الجنة ودلهما على تلك الشجرة التي نهاهم الله عز وجل عنها أن يقربوها وأباح لهم ما سواها من الجنة ، فاستدرجهم اللعين بخداعه وحيلته البائرة وغرهم بتلك اليمين الفاجرة : (
وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ) ( الأعراف : 21 ) فنفذ قضاء الله تعالى وقدره بأكلهما منها (
ليقضي الله أمرا كان مفعولا ) ( الأنفال : 42 ) وظن اللعين أنه قد أخذ بثأره من
آدم وأنه قد أهلكه معه ولم يعلم بفضل الله عز وجل وسعة رحمته الذي لا يقدر أحد على شيء منه (
وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ( الحديد : 29 ) فلما عاتبهما الله تبارك وتعالى على ذلك بقوله : (
ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ) ( الأعراف : 42 ) فلم يعترضا على قضاء الله وقدره ولم يحتجا بذلك على ارتكاب ما نهى الله عنه ولم يخاصما به كما قال اللعين مواجها ربه بقوله : (
فبما أغويتني ) ( الأعراف : 16 ) بل اعترفا بقدرة الله عليهما وأقرا بظلمهما لأنفسهما ، وصرحا بافتقارهما إلى ربهما وبكمال غناه عنهما ، (
قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) ( الأعراف : 23 ) وهذه هي الكلمات التي قال الله عز وجل : (
فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ) ( البقرة : 37 ) .
ثم أراد الله سبحانه أن يهبطهم إلى دار أخرى هي دار الامتحان والابتلاء
[ ص: 462 ] ليتبين حزبه الذين يتبعون رسله ويقاتلون أعداءه ويغرس لهم بصالح الأعمال ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ويتبين حزب عدوه الذين اتبعوه وأطاعوه وصاروا من خيله ورجله وقد أعد لهم جهنم وساءت مصيرا ، وألقى العداوة ونصب الحرب بين هذين الحزبين في هذه الدار ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم ، فقال تعالى : (
قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) ( البقرة : 38 ) . ثم كان من كيد الشيطان مما قص الله عز وجل من إلقائه الفتنة بين ابني آدم وقتل أحدهما الآخر كما في سورة المائدة .
ولما مات
آدم عليه السلام كان وصيه
شيثا عليه السلام ، ومضت تلك المدة التي ذكرنا والناس كلهم على شريعة من الحق ، كما قال
ابن جرير رحمه الله تعالى : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15573محمد بن بشار حدثنا
أبو داود أخبرنا
همام عن
قتادة عن
عكرمة عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان بين
نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين .
وزين الشيطان لعنه الله لقوم
نوح عبادة الأصنام ، وكان أول ذلك أن زين لهم
تعظيم القبور والعكوف عليها وبيان ذلك ما روى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري رحمه الله تعالى عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال في ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر : هذه أسماء رجال صالحين من قوم
نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ولم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك وتنوسي العلم عبدت . اهـ . فلو جاءهم اللعين وأمرهم من أول مرة بعبادتهم لم يقبلوا ولم يطيعوه ، بل أمر الأولين بنصب الصور لتكون ذريعة
[ ص: 463 ] للصلاة عندها ممن بعدهم ، ثم تكون عبادة الله عندها ذريعة إلى عبادتها ممن يخلفهم . فلما أرسل الله سبحانه إليهم
نوحا عليه السلام فلبث فيهم ما لبث يدعوهم إلى الله تعالى وهم مستكبرون عن الحق حتى أهلكهم الله تعالى بالطوفان . ثم بعدهم
عاد عبدوا آلهة مع الله منها هدا وصدى وصمودا ، فأرسل الله عز وجل إليهم
هودا عليه السلام فلبث فيهم ما لبث يدعوهم إلى توحيد الله عز وجل ، فلما حق عليهم العذاب أهلكهم الله تعالى بالريح ، ثم
ثمود كذلك وأرسل الله إليهم
صالحا عليه السلام كذبوه فأهلكوا بالصيحة ، ثم قوم
إبراهيم وعبدوا الشمس والقمر والنجوم وعبدوا الأصنام وغير ذلك ، وقد قص الله تعالى في كتابه كل ذلك مفصلا عن الأمم ورسلهم .
وعبد أول
بني إسرائيل العجل وآخرهم عبدوا عزيرا ، وعبدت
النصارى المسيح وعبدت
المجوس النار ، وعبد قوم الماء وعبد كل قوم ما زينه الشيطان لهم على قدر عقولهم ، هذا في الأمم الأولى وكل منها له وارث من الأمم المتأخرة فالأصنام التي في قوم
نوح قد انتقلت إلى العرب في زمن
عمرو بن لحي قبحه الله تعالى ، كما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس فيما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عنه رضي الله عنه قال : أما ود فكانت
لكلب بدومة الجندل ، وسواع كانت
لهذيل ، وأما يغوث فكانت
لمراد ثم
لبني غطيف بالجوف عند
سبأ ، وأما يعوق فكانت
لهمدان ، وأما نسر فكانت
لحمير لآل ذي الكلاع . انتهى .