وقال
ابن القيم رحمه الله تعالى في خاتمة كتابه الإغاثة : فصل
وتلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام له أسباب عديدة ، تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم : فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى
[ ص: 470 ] الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم كما تقدم عن قوم
نوح عليه السلام ، ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتخذين على القبور المساجد والسرج ، ونهى عن الصلاة إلى القبور ، وسأل ربه سبحانه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد ، ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيدا ، وقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1024520اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " وأمر بتسوية القبور وطمس التماثيل . قلت : وسنذكر الأحاديث المسندة في ذلك قريبا إن شاء الله تعالى .
قال : فأبى المشركون إلا خلافه في ذلك كله إما جهلا وإما عنادا لأهل التوحيد ، ولم يضرهم ذلك شيئا ، وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين ، وأما خواصهم فإنهم اتخذوها بزعمهم على صور الكواكب المؤثرة في العالم عندهم ، وجعلوا لها بيوتا وسدنة وحجابا وحجا وقربانا ، ولم يزل هذا في الدنيا قديما وحديثا ، فمنها بيت على رأس جبل
بأصبهان كانت به أصنام أخرجها بعض ملوك
المجوس وجعله بيت نار .
ومنها بيت ثان وثالث ورابع
بصنعاء بناه بعض المشركين على اسم الزهرة فخربه
عثمان رضي الله عنه ، ومنها بيت بناه
قابوس الملك على اسم الشمس بمدينة
فرغانة فخربه
المعتصم ، وأشد الأمم في هذا النوع من الشرك
الهند . قال
nindex.php?page=showalam&ids=17306يحيى بن بشر : إن شريعة
الهند وضعها لهم رجل يقال له
برهمن ووضع لهم أصناما ، وجعل أعظم بيوتها بيتا بمدينة من مدائن
السند ، وجعل فيه صنمهم الأعظم وزعم أنه بصورة الهيولي الأكبر ، وفتحت هذه المدينة في أيام
الحجاج ، واسمها
الملتان . إلى أن قال رحمه الله : وأصل هذا المذهب من مشركي الصابئة وهم قوم
إبراهيم عليه السلام الذين ناظرهم في بطلان الشرك وكسر حجتهم بعمله ، وآلهتهم بيده ، فطلبوا تحريقه . وهذا مذهب قديم في العالم وأهله طوائف شتى ، فمنهم عباد الشمس زعموا أنها ملك من الملائكة لها نفس وعقل ، وهي أصل نور القمر والكواكب ، وتكون الموجودات السفلية كلها عندهم منها ، وهي عندهم ملك الفلك يستحق التعظيم والسجود والدعاء . ومن شريعتهم في عبادتها أنهم اتخذوا لها صنما بيده جوهر على نوع النار ، وله بيت خاص قد بنوه
[ ص: 471 ] باسمه وجعلوا له الوقوف الكثيرة من القرى والضياع ، وله سدنة وقوام وحجبة يأتون البيت ويصلون فيه لها ثلاث كرات في اليوم ، ويأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم ويصلون ويدعون ويستسقون به ، وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم ، وإذا غربت ، وإذا توسطت الفلك ، ولهذا يقارفها الشيطان في هذه الأوقات الثلاثة ; لتقع عبادتهم وسجودهم له ، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تحري الصلاة في هذه الأوقات ; قطعا لمشابهة الكفار ظاهرا ، وسدا لذريعة الشرك وعبادة الأصنام .
قلت : وقد ذكر الله عز وجل عبادة الشمس عن أهل
سبأ من أرض
اليمن في عهد
بلقيس ، كما حكى قول الهدهد حيث قال : (
وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ) ( النمل : 24 ) إلى آخر الآيات . وهداها الله تعالى إلى الإسلام على يد نبيه
سليمان عليه السلام ، حيث قالت : (
رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) ( النمل : 44 ) .
ثم قال
ابن القيم رحمه الله تعالى : ( فصل ) وطائفة أخرى اتخذت للقمر صنما وزعموا أنه يستحق التعظيم والعبادة وإليه تدبير هذا العالم السفلي ، ومن شريعة عباده ، أنهم اتخذوا لهم صنما على شكل عجل ، ويجره أربعة ، وبيد الصنم جوهرة ، ويعبدونه ويسجدون له ويصومون له أياما معلومة من كل شهر ، ثم يأتون إليه بالطعام والشراب والفرح والسرور ، فإذا فرغوا من الأكل أخذوا في الرقص والغناء وأصوات المعازف بين يديه . ومنهم من يعبد أصناما اتخذوها على صور الكواكب وروحانياتها بزعمهم ، وبنوا لها هياكل ومتعبدات لكل كوكب منها هيكل يخصه وصنم يخصه وعبادة تخصه ، ومتى أردت الوقوف على هذا فانظر في كتاب " السر المكتوم في مخاطبة النجوم " المنسوب
لابن خطيب الري تعرف
[ ص: 472 ] عبادة الأصنام وكيفية تلك العبادة وشرائطها ، وكل هؤلاء مرجعهم إلى عبادة الأصنام ، فإنهم لا تستمر لهم طريق إلا بشخص خاص على شكل خاص ينظرون إليه ويعكفون عليه ، ومن هنا اتخذ أصحاب الروحانيات والكواكب أصناما زعموا أنها على صورها ، فوضع الصنم إنما كان في الأصل على شكل معبود غائب ، فجعلوا الصنم على شكله وهيأته وصورته ليكون نائبا منابه وقائما مقامه ، وإلا فمن المعلوم أن عاقلا لا ينحت خشبة أو حجرا بيده ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده .
ومن أسباب عبادتها أيضا أن الشياطين تدخل فيها وتخاطبهم منها وتخبرهم ببعض المغيبات عنهم وتدلهم على بعض ما يخفى عليهم وهم لا يشاهدون الشيطان ، فجهلتهم وسقطهم يظنون أن الصنم نفسه هو المتكلم المخاطب ، وعقلاؤهم يقولون : إن تلك روحانيات الأصنام . وبعضهم يقول : إنها الملائكة . وبعضهم يقول : إنها هي العقول المجردة . وبعضهم يقول : هي روحانيات الأجرام العلوية . وكثير منهم لا يسأل عما عهد ، بل إذا سمع الخطاب من الصنم اتخذه إلها ، ولا يسأل عما وراء ذلك .
وبالجملة فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام والأوثان ولم يتخلص منها إلا الحنفاء أتباع ملة
إبراهيم عليه السلام وعبادتها في الأرض من قبل
نوح عليه السلام كما تقدم ، وهياكلها ووقوفها وسدنتها وحجابها ، والكتب المصنفة في شرائح عبادتها طبق الأرض . قال إمام الحنفاء : (
واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس ) ( إبراهيم : 35 - 36 ) والأمم التي أهلكها الله تعالى بأنواع الهلاك كلهم يعبدون الأصنام ، كما قص الله عز وجل ذلك عنهم في القرآن وأنجى الرسل وأتباعهم من الموحدين . ويكفي في معرفة كثرتهم وأنهم أكثر أهل الأرض ما صح عن النبي
[ ص: 473 ] صلى الله عليه وسلم أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، وقد قال الله تعالى : (
فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) ( الإسراء : 89 ) وقال تعالى : (
وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) ( الأنعام : 116 ) وقال تعالى : (
وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) ( يوسف : 103 ) وقال تعالى : (
وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) ( الأعراف : 102 ) .
ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة لما أقدم عبادها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها ، فهم يشاهدون مصارع إخوانهم وما حل بهم ولا يزيدهم ذلك إلا حبا لها وتعظيما ، ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها وتحمل أنواع المكاره في نصرتها وعبادتها ، وهم يسمعون أخبار الأمم التي فتنت بعبادتها وما حل بهم من عاجل العقوبات ولا يثنيهم ذلك عن عبادتها . ففتنة
عبادة الأصنام أشد من فتنة عشق الصور وفتنة الفجور بها ، والعاشق لا يثنيه عن مراده خشية عقوبة في الدنيا ولا في الآخرة وهو يشاهد ما يحل بأصحاب ذلك من الآلام والعقوبات والضرب والحبس والنكال والفقر ، غير ما أعد الله له في الآخرة وفي البرزخ ، ولا يزيده ذلك إلا إقداما وحرصا على الوصول والظفر بحاجته ، فهكذا الفتنة بعبادة الأصنام وأشد ، فإن تأله القلوب لها أعظم من تألهها للصور التي يريد منها الفاحشة بكثير . والقرآن بل وسائر الكتب الإلهية من أولها إلى آخرها مصرحة ببطلان هذا الدين وكفر أهله ، وأنهم أعداء الله وأعداء رسله ، وأنهم أولياء الشيطان وعباده ، وأنهم هم أهل النار الذين لا يخرجون منها ، وهم الذين حلت بهم المثلات ونزلت بهم العقوبات ، وأن الله سبحانه بريء منهم هو وجميع رسله وملائكته ، وأنه سبحانه لا يغفر لهم ولا يقبل لهم عملا ، وهذا معلوم بالضرورة من الدين الحنيف ، وقد أباح الله عز وجل لرسوله وأتباعه من الحنفاء دماء هؤلاء وأموالهم ونساءهم وأبناءهم ، وأمرهم بتطهير الأرض منهم حيث وجدوا ، وذمهم بسائر أنواع الذم وتوعدهم بأعظم أنواع العقوبة ، فهؤلاء في شق ورسل الله في شق . ثم قال رحمه الله تعالى :
[ ص: 474 ] فصل
ومن أسباب عبادة الأصنام الغلو في المخلوق وإعطاؤه فوق منزلته حتى جعلوا فيه حظا من الإلهية وشبهوه بالله تعالى ، وهذا هو التشبيه الواقع في الأمم الذي أبطله الله سبحانه وبعث رسله وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله ، فهو سبحانه ينفي وينهى أن يجعل غيره مثلا له وندا وشبها له ، لا أن يشبه هو بغيره إذ ليس في الأمم أمة جعلته سبحانه مثلا لشيء من مخلوقاته فجعلت المخلوق أصلا وشبهت به الخالق ، فهذا لا يعرف في طائفة من طوائف بني آدم ، وإنما الأول هو المعروف في طوائف أهل الشرك غلوا في من يعظمونه ويحبونه حتى شبهوه بالخالق وأعطوه خصائص الإلهية ، بل صرحوا أنه إله وأنكروا جعل الآلهة إلها واحدا وقالوا : اصبروا على آلهتكم ، وصرحوا بأنه إله معبود يرجى ويخاف ويعظم ويسجد له ويحلف باسمه ويقرب له القرابين ، إلى غير ذلك من خصائص العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى . ثم ذكر رحمه الله تعالى في ذلك بحثا نفيسا فأجاد وأفاد ، ثم ذكر باقي طوائف المشركين من عباد النار والماء والحيوانات والملائكة وغيرهم من الثنوية والدهرية والفلاسفة ، وذكر من أوضاع شرائعهم الباطلة وأصولها وكيفية عبادتهم لما ألهوه ، ونقض ذلك عليهم أتم نقض ، تغمده الله برحمته .