( فصل ) : والقول ( الثاني ) : وهو إضافة الفعل والانفعال كلاهما إلى الله - عز وجل - هو
قول الجبرية الغلاة الجفاة ، الذين يقولون : إن العبد مجبور على أفعاله ، مقسور عليها كالسعفة يحركها الريح العاصف وكالهاوي من أعلى إلى أسفل ، وأن تكليف الله - سبحانه وتعالى - عباده من أمرهم بالطاعات ونهيهم عن المعاصي ، كتكليف الحيوان البهيم بالطيران ، وتكليف المقعد بالمشي ، وتكليف الأعمى بنقط الكتاب ، وأن تعذيبه إياهم على معصيتهم إياه هو تعذيب لهم على فعله لا على أفعالهم ، وأن ذلك كتعذيب الطويل لم لم يكن قصيرا ، والقصير لم لم يكن طويلا ، والأسود لم لم يكن أبيض ، والأبيض لم لم يكن أسود ، فسلبوا العبد قدرته واختياره ، وأخرجوا عن أفعال الله تعالى وأحكامه حكمها ومصالحها ، ونفوا عن الله تعالى حكمته البالغة ، وجحدوا حجته الدامغة ، وأثبتوا عليه تعالى الحجة لعباده ، ونسبوه تعالى إلى الظلم وطعنوا في عدله وشرعه ، فلا قيام عندهم لسوق الجهاد ، ولا معنى لإقامة الحدود ولا للثواب والعقاب ، بل ولا لإرسال الرسل والكتب إلا التكليف في غير وسع وتحميل مالا يطاق ، والظلم الذي حرمه الله تعالى على نفسه وجعله بين عباده محرما ، فأقاموا عذر إبليس اللعين وعذر
فرعون وهامان وقارون وسائر الأمم العصاة الممقوتين المقبوحين المغضوب عليهم المخسوف بهم المعدة لهم جهنم وساءت مصيرا ، وأن غضب الله عليهم ولعنه وعقابه إياهم على فعله لا على أفعالهم ، بل قالوا إنه عاقبهم ومقتهم على طاعتهم إياه ; لأنهم إن كانوا خالفوا شرعه ، فقد أطاعوا إرادته ومشيئته . هذا معنى إثبات القدر عند هذه الفرقة الإبليسية ، وقد ذكر
ابن القيم - رحمه الله تعالى - كثيرا
[ ص: 947 ] من عباراتهم التي لا يستطيع المؤمن حكايتها ، لولا أن الله تعالى حكى في كتابه أقوال الكفار قبحهم الله ، فمن ذلك قول بعضهم :
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
.
وقول آخر ، قبحه الله :
دعاني وسد الباب عني فهل إلى دخولي سبيل بينوا لي قضيتي
.
وقول كافر آخر ، فض الله فاه :
وضعوا اللحم للبزا ة على ذروتي عدن
ثم لاموا البزاة إذ خلعوا عنهم الرسن
لو أرادوا صيانتي ستروا وجهك الحسن
.
وقال بعضهم ، وقد ذكر له من يخاف إفساده فقال : لي خمس بنات لا أخاف على إفسادهن غيره ، وصعد رجل يوما على سطح دار له ، فأشرف على غلام له يفجر بجاريته ، فنزل وأخذهما ليعاقبهما ، فقال الغلام : إن القضاء والقدر لم يدعانا حتى فعلنا ذلك ، فقال : لعلمك بالقضاء والقدر أحب إلي من كل شيء ، أنت حر لوجه الله . ورأى آخر يفجر بامرأته ، فبادر ليأخذه فهرب ، فأقبل يضرب المرأة ، وهي تقول : القضاء والقدر . فقال : يا عدوة الله ، أتزنين وتعتذرين بمثل هذا ؟ فقالت : أو تركت السنة وأخذت بمذهب
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، فتنبه ورمى بالسوط من يده ، واعتذر إليها وقال : لولاك لضللت . ورأى آخر رجلا يفجر بامرأته فقال : ما هذا ؟ فقالت : هذا قضاء الله وقدره . فقال : الخيرة فيما قضى الله . فلقب بالخيرة فيما قضى الله ، وكان إذا دعي به غضب ، وقيل لبعض هؤلاء : أليس هو يقول ولا يرضى لعباده الكفر ؟ فقال : دعنا من هذا ، رضيه وأحبه وأراده ، وما أفسدنا غيره ، ولقد بالغ بعضهم في ذلك حتى قال : القدر عذر لجميع العصاة ، وإنما مثلنا في ذلك كما قيل :
[ ص: 948 ] إذا مرضنا أتيناكم نعودكم وتذنبون فنأتيكم فنعتذر
.
وبلغ بعض هؤلاء أن
عليا مر بقتلى
النهروان فقال : بؤسا لكم ، لقد ضركم من غركم . فقيل : من غرهم ؟ فقال : الشيطان والنفس الأمارة بالسوء والأماني . فقال هذا القائل : كان
علي قدريا ، وإلا فالله غرهم وفعل بهم ما فعل وأوردهم تلك الموارد . واجتمع جماعة من هؤلاء يوما فتذاكروا القدر ، فجرى ذكر الهدهد وقوله (
وزين لهم الشيطان أعمالهم ) ، ( النمل 24 ) فقال : كان الهدهد قدريا ، أضاف العمل إليهم والتزيين إلى الشيطان ، وجميع ذلك فعل الله . وسئل بعض هؤلاء عن قول الله تعالى لإبليس : (
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) ، ( ص 75 ) أيمنعه ، ثم يسأله ما منعه ؟ قال : نعم ، قضى عليه في السر ما منعه في العلانية ، ولعنه عليه . قال له : فما معنى قوله - عز وجل : (
وماذا عليهم لو آمنوا بالله ) ، ( النساء 39 ) إذا كان هو الذي منعهم ؟ قال : استهزاء بهم . قال : فما معنى قوله (
ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ) ، ( النساء 147 ) ؟ قال : فعل ذلك بهم من غير ذنب جنوه ، بل ابتدأهم بالكفر ، ثم عذبهم عليه ، وليس للآية معنى .
وقال بعض هؤلاء ، وقد عوتب على ارتكابه معاصي الله فقال : إن كنت عاصيا لأمره ، فأنا مطيع لإرادته . وجرى عند بعض هؤلاء ذكر إبليس وإبائه وامتناعه من السجود
لآدم ، فأخذ الجماعة يلعنونه ويذمونه فقال : إلى متى هذا اللوم ؟ ولو خلي لسجد ، ولكن منع ، وأخذ يقيم عذره . فقال بعض الحاضرين : تبا لك سائر اليوم ، أتذب عن الشيطان وتلوم الرحمن ؟ وجاء جماعة إلى منزل رجل من هؤلاء فلم يجدوه ، فلما رجع قال : كنت أصلح بين قوم . فقيل له : وأصلحت بينهم ؟ قال : أصلحت إن لم يفسد الله ، فقيل له : بؤسا لك ، أتحسن الثناء على نفسك وتسيء الثناء على ربك . ومر بلص مقطوع اليد على بعض هؤلاء ، فقال : مسكين مظلوم ، أجبره على السرقة ، ثم قطع يده عليها . وقيل لبعضهم : أترى الله كلف عباده ما لا يطيقون ، ثم يعذبهم عليه ؟ قال : والله ، قد فعل ذلك ، ولكن لا نجسر أن نتكلم . وقال بعض هؤلاء : ذنبة أذنبها أحب إلي من عبادة الملائكة . قيل : ولم ؟ قال : لعلمي بأن الله قضاها علي وقدرها ، ولم يقضها إلا والخيرة لي فيها . وقال بعض هؤلاء : العارف لا ينكر منكرا ; لاستبصاره
[ ص: 949 ] بسر الله في القدر . قال : وسمعت شيخ الإسلام
ابن تيمية - رحمه الله - يقول : عاتبت بعض شيوخ هؤلاء ، فقال لي : المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب ، والكون كله مراده ، فأي شيء أبغض منه ؟ قال : فقلت له : إذا كان المحبوب قد أبغض بعض من في الكون وعاداهم ولعنهم ، فأحببتهم أنت وواليتهم ، أكنت وليا للمحبوب أو عدوا له ؟ قال : فكأنما ألقم حجرا . وقرأ قارئ بحضرة بعض هؤلاء (
قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) ، ( ص 75 ) فقال : هو الله منعه ، ولو قال إبليس ذلك ، لكان صادقا ، وقد أخطأ إبليس الحجة ، ولو كنت حاضرا ، لقلت له : أنت منعته . وسمع بعض هؤلاء قارئا يقرأ (
وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ) ، ( فصلت 17 ) فقال : ليس من هذا شيء ، بل أضلهم وأعماهم اه ، إلى أن قال : فيقال : الله أكبر على هؤلاء الملاحدة أعداء الله حقا ، الذين ما قدروا الله حق قدره ، ولا عرفوه حق معرفته ، ولا عظموه حق تعظيمه ، ولا نزهوه عما لا يليق به ، وبغضوه إلى عباده ، وبغضوهم إليه سبحانه ، وأساءوا الثناء عليه جهدهم وطاقتهم ، وهؤلاء خصماء الله حقا الذين جاء فيهم الحديث "
يقال يوم القيامة أين خصماء الله ؟ فيؤمر بهم إلى النار " . قال شيخ الإسلام
ابن تيمية - رحمه الله - في تائيته :
ويدعى خصوم الله يوم معادهم إلى النار طرا فرقة القدرية
سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا به الله أو ماروا به للشريعة
.
وقال وسمعته يقول :
القدرية المذمومون في السنة ، وعلى لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاث : نفاته وهم
القدرية المجوسية ، والمعارضون به للشريعة
[ ص: 950 ] الذين قالوا : (
لو شاء الله ما أشركنا ) ، ( الأنعام 148 ) وهم
القدرية المشركون ، والمخاصمون به للرب - سبحانه - وهم أعداء الله تعالى وخصومه ، وهم
القدرية الإبليسية وشيخهم إبليس ، وهو أول من احتج على الله بالقدر فقال : (
بما أغويتني ) ولم يعترف بالذنب ويبوء به كما اعترف به
آدم ، فمن أقر بالذنب وباء به ونزه ربه ، فقد أشبه أباه
آدم ، ومن أشبه أباه فما ظلم ، ومن برأ نفسه واحتج بالقدر ، فقد أشبه إبليس . ثم ساق كلاما طويلا في فرق
القدرية وضلالهم إلى أن قال - رحمه الله تعالى : فانظر كيف انقسمت هذه المواريث على هذه السهام ، وورث كل قوم أئمتهم وأسلافهم ، إما في جميع تركتهم ، وإما في كثير منها ، وإما في جزء منها ، وهدى الله بفضله ورثة أنبيائه ورسله لميراث نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، رضي الله عنهم ، فلم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض ، بل آمنوا بقضاء الله وقدره ومشيئته العامة النافذة ، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه مقلب القلوب ومصرفها كيف أراد ، وأنه هو الذي جعل المؤمن مؤمنا والمصلي مصليا والمتقي متقيا ، وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره ، وأئمة الضلالة يدعون إلى النار ، وأنه ألهم كل نفس فجورها وتقواها ، وأنه يهدي من يشاء بفضله ورحمته ، ويضل من يشاء بعدله وحكمته ، وأنه هو الذي وفق أهل الطاعة لطاعته فأطاعوه ، ولو شاء لخذلهم فعصوه ، وأنه تعالى حال بين الكفار وقلوبهم ، فإنه تعالى يحول بين المرء وقلبه ، فكفروا به ، ولو شاء ، لوفقهم فآمنوا به وأطاعوه ، وأنه من يهده الله ، فلا مضل له ، ومن يضلل ، فلا هادي له ، وأنه لو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعا إيمانا يثابون عليه ، ويقبل منهم ويرضى به عنهم ، وأنه لو شاء ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ، ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون .