معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

صفحة جزء
ذكر أقوال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفة العلو

روى ابن أبي شيبة ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أبو بكر رضي الله عنه : أيها الناس ، إن كان محمد إلهكم الذي تعبدونه ، فإن إلهكم قد مات ، وإن كان إلهكم الله الذي في السماء ، فإن إلهكم لم يمت ، ثم تلا : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) ، حتى ختم الآية .

وللبخاري في تاريخه ، عنه رضي الله ، قال : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دخل أبو بكر - رضي الله عنه - عليه ، فأكب عليه وقبل جبهته ، وقال : بأبي أنت وأمي ، طبت حيا وميتا ، وقال : من كان يعبد محمدا ، فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله ، فإن الله في السماء حي لا يموت .

ولابن أبي شيبة ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : لما قدم عمر - رضي الله عنه - الشام ، استقبله الناس وهو على بعيره ، فقالوا : لو ركبت برذونا ، يلقاك عظماء الناس ووجوههم . فقال عمر رضي الله عنه : ألا أراكم هاهنا ، إنما الأمر من هاهنا ، فأشار بيده إلى السماء . قال الذهبي : إسناده كالشمس .

وروى الزهري ، عن سالم أن كعبا قال لعمر : ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء ، فقال عمر : إلا من حاسب نفسه ؟ فقال كعب : إلا من حاسب نفسه ، فكبر عمر ، ثم خر ساجدا .

وعن [ ص: 176 ] عبد الرحمن بن غنم ، قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : ويل لديان الأرض من ديان السماء يوم يلقونه ، إلا من أمر بالعدل ، فقضى بالحق ، ولم يقض على هوى ولا على قرابة ، ولا على رغبة ولا رهب ، وجعل كتاب الله مرآة بين عينيه . قال ابن غنم : فحدثت بهذا عثمان ، ومعاوية ، ويزيد ، وعبد الملك .

رواه أبو نعيم . وعن أبي يزيد المدني ، قال : لقيت عمر امرأة ، يقال لها خولة بنت ثعلبة ، فقال عمر : هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات . قال الذهبي : هذا إسناد صالح فيه انقطاع ، أبو يزيد لم يلحق عمر رضي الله عنه . وفي لفظ : عن عمر - رضي الله عنه - أنه مر بعجوز ، فاستوقفته فوقف يحدثها ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين ، حبست الناس على هذه العجوز . فقال ، : ويلك ، أتدري من هي ؟ هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات ، هذه خولة التي أنزل الله فيها : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ) . وهذا الحديث رواه عثمان بن سعيد الدارمي ، وقال ابن عبد البر : حدثنا من وجوه عن عمر - رضي الله عنه - فذكره . ومن شعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه :


شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا     وأن العرش فوق الماء طاف
وفوق العرش رب العالمينا     وتحمله ملائكة كرام
ملائكة الإله مسومينا

.

[ ص: 177 ] قال ابن عبد البر في الاستيعاب : رويناه من وجوه صحاح . وروى الدارمي ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : ما بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام ، وبين كل سماء مسيرة خمسمائة عام ، وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام ، وبين الكرسي إلى الماء مسيرة خمسمائة عام ، والعرش على الماء ، والله - تعالى - فوق العرش ، وهو يعلم ما أنتم عليه .

وروى الأعمش ، عن خيثمة ، عنه : إن العبد ليهم بالأمر من التجارة أو الإمارة ، حتى إذا تيسر له نظر الله إليه من فوق سبع سماوات ، فيقول للملائكة : اصرفوه عنه ، فإنه إن يسرته له ، أدخلته النار . أخرجه اللالكائي بإسناد قوي ، وعنه - رضي الله عنه - قال : إن الله - تعالى - يبرز لأهل جنته في كل جمعة في كثيب من كافور أبيض ، فيحدث لهم من الكرامة ما لم يروا مثله ، ويكونون من الدنو منه كمسارعتهم إلى الجمع . أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى بإسناد جيد .

وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : البحر المسجور يجري تحت العرش . وتقدم حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه : وينزل الله - تعالى - في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي . وعن أم سلمة - رضي الله عنها - في قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) قالت : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإقرار به إيمان ، والجحود به كفر .

قال الذهبي : هذا القول محفوظ عن جماعة كربيعة الرأي ، ومالك الإمام ، وأبي جعفر الترمذي ، فأما عن أم سلمة فلا يصح ; لأن أبا كنانة ليس بثقة ، وأبو عمير لا أعرفه .

وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال : قالت الملائكة : يا ربنا ، منا الملائكة المقربون ، ومنا حملة العرش ، ومنا [ ص: 178 ] الكرام الكاتبون . وذكر الحديث ، قال الذهبي : إسناده صالح .

وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : وايم الله ، إني لأخشى لو كنت أحب قتله لقتلته - يعني : عثمان رضي الله عنه ، ولكن علم الله من فوق عرشه أني لم أحب قتله . رواه الدارمي . وعن أسماء بنت عميس أن جعفرا - رضي الله عنه - جاءها إذ هم بالحبشة يبكي ، فقالت : ما شأنك ؟ قال : رأيت فتى مترفا من الحبشة شابا جسيما ، مر على امرأة ، فطرح دقيقا كان معها ، فنسفته الريح ، فقالت : أكلك إلى يوم يجلس الملك على الكرسي ، فيأخذ للمظلوم من الظالم . رواه ابن ماجه وغيره .

وعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال : لما لعن الله إبليس وأخرجه من سماواته وأخزاه ، قال : رب ، أخزيتني ولعنتني وطردتني عن سماواتك وجوارك ، فوعزتك لأغوين خلقك ما دامت الأرواح في أجسادهم ، فأجابه الرب - تبارك وتعالى - فقال : وعزتي وجلالي وارتفاعي على عرشي ، لو أن عبدي أذنب حتى ملأ السماوات والأرض خطايا ، ثم لم يبق من عمره إلا نفس واحد فندم على ذنوبه ، لغفرتها ، وبدلت سيئاته كلها حسنات . وقد روي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الشيطان قال : وعزتك ، لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال الرب : وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني ، لا أزال أغفر ما استغفروني .

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : إن الكرسي الذي وسع السماوات والأرض لموضع قدميه ، وما يقدر قدر العرش إلا الذي خلقه ، وإن السماوات في خلق الرحمن - عز وجل - مثل قبة في [ ص: 179 ] صحراء . رواه عبد الله بن أحمد في كتاب السنة .

وللدارمي عنه - رضي الله عنه - أنه استأذن على عائشة - رضي الله عنها - وهي تموت ، فقال : كنت أحب نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه ، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب إلا طيبا ، وأنزل الله - تعالى - براءتك من فوق سبع سماوات ، جاء بها الروح الأمين ، فأصبح ليس مسجدا من مساجد الله - تعالى - يذكر فيها إلا وهو يتلى فيها آناء الليل وآناء النهار .

وذكر الطبراني في شرح السنة ، عن مجاهد قال : قيل لابن عباس : إن ناسا يكذبون بالقدر ، قال : يكذبون بالكتاب ، لئن أخذت شعر أحد لا ينبتونه ، إن الله - تعالى - كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا ، فخلق الخلق ، وكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، فإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه .

ولإسحاق بن راهويه ، عن عكرمة في قوله تعالى : ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يستطع أن يقول من فوقهم ، علم أن الله - تعالى - من فوقهم . وليحيى بن سعيد الأموي ، عن عدي بن عميرة - رضي الله عنه - قال : خرجت مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر قصة طويلة ، وقال فيها : فإذا هو ومن معه يسجدون على وجوههم ، ويزعمون أن إلههم في السماء ، فأسلمت وتبعته . وأقوال الصحابة في هذا الباب وتفاسيرهم أكثر من أن تحضر ، وفيما ذكرنا كفاية .

التالي السابق


الخدمات العلمية