فقد أخبرنا الله - عز وجل - أنه اصطفى عبده موسى بكلامه ، واختصه بإسماعه إياه بدون واسطة ، وأنه ناداه وناجاه وكلمه تكليما ، وأخبرنا - تعالى - بما كلمه به ، وبالموضع الذي كلمه فيه ، وبالميقات الذي كلمه فيه ، وأخبر عنه رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - بذلك في أصح الروايات ، فأي كلام أفصح من كلام الله - تعالى - وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأي بيان أوضح من بيان الله ورسوله ، وبأي برهان يقنع من لم يقنع بذلك ، ( فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ) ، ( الجاثية : 6 ) ، وفي هذا أعلى دلالة وأبينها ، وأوضحها على ثبوت صفة الكلام لربنا عز وجل ، وأنه يتكلم إذا شاء بما يشاء وكيف يشاء بكلام يسمعه من يشاء ، أسمعه موسى - عليه السلام - كيف شاء وعلى ما أراد ، وقد ثبت بالكتاب والسنة نداؤه الأبوين - عليهما السلام - إذ [ ص: 250 ] يقول : ( وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ) ، ( الأعراف : 22 ) ، وأن الملائكة تسمع كلام الله بالوحي ، كما قال تعالى : ( حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ) ، ( سبأ : 23 ) .
وفي الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - في قصة الإفك ، قالت : ولكن [ ص: 255 ] والله ما كنت أظن أن الله ينزل في براءتي وحيا يتلى ، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا ، يبرئني الله بها ، فأنزل الله تعالى : ( إن الذين جاءوا بالإفك ) العشر الآيات ، ولو ذهبنا ننقل الأحاديث في : قال الله ، ويقول ويتكلم ، وينادي ونحو ذلك لطال الفصل ، وفيما ذكرنا كفاية .
وهذه الآيات والأحاديث مما ذكرنا ومما لم نذكر كلها شاهدة بأن الله - تعالى - لم يزل متكلما بمشيئته وإرادته ، يتكلم بما شاء ، كيف شاء متى شاء بكلام حقيقة ، يسمعه من يشاء من خلقه ، وأن كلامه قول حقيقة كما أخبر ، وعلى ما يليق بعظمته كما قال تعالى : ( والله يقول الحق ) ، وقال : ( سلام قولا من رب رحيم ) ، وقال : ( إنه لقول فصل وما هو بالهزل ) ، والقرآن كلامه - تعالى - تكلم به حقيقة كما شاء ، وهو من فاتحته إلى خاتمته شاهد بذلك ، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - بحثه قريبا ، وكلامه - تعالى - صفة من صفاته من لوازم ذاته ، والصفة تابعة لموصوفها ، فصفات الباري - تبارك وتعالى - قائمة به أزلية باقية ببقائه ، لم يزل متصفا بها ولا يزال كذلك ، لم تجدد له صفة لم يكن متصفا بها ، ولا تنفد صفة كان متصفا بها ، بل هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، وهو بكل شيء عليم .