وسم ذا النوع من التوحيد توحيد إثبات بلا ترديد
قد أفصح الوحي المبين عنه فالتمس الهدى المنير منه
.
( وسم ذا النوع ) والإشارة بذا إلى ما تقدم من قوله ( إثبات ذات الرب ) إلى هنا وما يدخل في ذلك من
معاني الربوبية والأسماء والصفات ( من ) نوعي ( التوحيد ) المشار إليهما بقول : وهو نوعان ( توحيد إثبات ) لاشتماله على إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه ، وأثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن قبله من الأنبياء والمرسلين من معاني ربوبيته ، ومقتضى أسمائه وصفاته ، ونفي ما يناقض ذلك كما نفاه عن نفسه تبارك وتعالى . فنؤمن بالله تعالى ، وبما أخبر به عن نفسه - سبحانه - على ألسنة رسله من صفات كماله ، ونعوت جلاله بلا تكييف ولا تمثيل ، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه مما لا يليق بجلاله وعظمته ، فإنه أعلم بنفسه وبغيره ، وأصدق قيلا ، وأبين دليلا من غيره ، وقد عكس
الزنادقة الأمر فنفوا عنه ما أثبته - تعالى - لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العلى ، وأثبتوا له ما نزه نفسه عنه من أضداد ما تقتضي أسماؤه وصفاته ، وكذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله ، وبدلوا قولا غير الذي قيل لهم ، فبعدا لقوم لا يؤمنون .
[ ص: 367 ] ( فائدة ) قال الحافظ
الذهبي رحمه الله تعالى : المتأخرون من أهل النظر قالوا مقالة مولدة ، ما علمت أحدا سبقهم بها ، قالوا : هذه الصفات تمر كما جاءت ، ولا تؤول مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد ، فتفرع من هذا أن الظاهر يعنى به أمران : أحدهما أنه لا تأويل لها غير دلالة الخطاب ، كما قال السلف الصالح : الاستواء معلوم ، وكما قال
سفيان وغيره : قراءتها تفسيرها ، يعني أنها بينة واضحة في اللغة ، لا يبتغى بها مضايق التأويل والتحريف ، وهذا هو مبدأ السلف مع اتفاقهم أيضا أنها لا تشبه صفات البشر بوجه ، إذ الباري لا مثل له لا في ذاته ولا في صفاته .
الثاني أن ظاهرها هو الذي يتشكل في الخيال من الصفة ، كما يتشكل في الذهن من وصف البشر ، فهذا غير مراد ، فإن الله - تعالى - فرد صمد ، ليس له نظير ، وإن تعددت صفاته ، فإنها حق ، ولكن ما لها مثل ولا نظير ، فمن ذا الذي عاينه ونعته لنا ، ومن ذا الذي يستطيع أن ينعت لنا ، كيف سمع
موسى كلامه ؟ والله ، إنا لعاجزون كالون حائرون باهتون في حد الروح التي فينا ، وكيف تعرج كل ليلة إلى بارئها ، وكيف يرسلها ، وكيف تستقل بعد الموت ، وكيف حياة الشهيد المرزوق عند ربه بعد قتله ، وكيف حياة النبيين الآن ، وكيف شاهد النبي أخاه
موسى يصلي في قبره قائما ، ثم رآه في السماء السادسة وحاوره ، وأشار إليه بمراجعة رب العالمين ، وطلب التخفيف منه على أمته ، وكيف ناظر
موسى أباه
آدم ، وحجه
آدم بالقدر السابق ، وبأن اللوم بعد التوبة ، وقبولها لا فائدة فيه ، وكذلك نعجز عن وصف هيئتنا في الجنة ، ووصف الحور العين ، فكيف بنا إذا انتقلنا إلى الملائكة وذواتهم وكيفيتها ، وأن بعضهم يمكنه أن يلتقم الدنيا في لقمة ، مع رونقهم وحسنهم وصفاء جوهرهم النوراني ، فالله أعلى وأعظم ، وله المثل
[ ص: 368 ] الأعلى ، والكمال المطلق ، ولا مثل له أصلا (
آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ) ، ( آل عمران : 52 ) انتهى كلامه بحروفه .
قلت : قوله من ذا الذي عاينه فنعته ، هذا لا معنى له ، فإن المؤمنين يرونه - تعالى - في الجنة عيانا بأبصارهم ، ولا يستطيع أحد منهم نعته - تعالى (
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) ، (
ولا يحيطون به علما ) ، وكان حقه أن يقول : من ذا الذي أحاط به علما فنعته .
وقوله الثاني أن ظاهرها الذي يتشكل في الخيال . . . الخ ، قد قدمنا أن هذا التصور الفاسد هو الذي يعمل جهلة النفاة على ما صنعوا من النفي حين لم يفهموا من ظاهرها إلا ما يقوم بالمخلوق ، ولم يتدبروا من هو الموصوف ، فأساءوا الظن بالوحي ، ثم قاسوا وشبهوا بعد أن فكروا وقدروا ، ثم نفوا وعطلوا ، فسحقا لأصحاب السعير .
( قد أفصح الوحي المبين ) من الكتاب والسنة ، وكذلك الصحف الأولى عنه غاية الإفصاح ، وشرحه الله تبارك وتعالى أكثر من شرح بقية الأحكام لعظم شأن متعلقه ، ( فالتمس ) اطلب ( الهدى المنير ) أي من الوحي المبين ; لأنه لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا منه ، ومن خرج عن الوحي مثقال ذرة ، ضل وغوى ولا بد ، فإنا لا نعلم من علم الله - سبحانه - إلا ما علمنا هو ، فنصدق بما أخبر به عن نفسه ، وأخبرت به رسله عنه ، كما ننقاد ونسلم ، ونمتثل لما أمر ، ونجتنب ما نهى عنه وزجر ، بل إن تأويل الأمر والنهي أخف جرما من تأويل معاني الربوبية والأسماء والصفات ، والتكذيب بالبعث والنشور ، والوعد والوعيد دون التكذيب بما أخبر الله به عن نفسه من الأسماء الحسنى والصفات العلى ، وأخبرت عنه به رسله من ذلك مع أن جرم كل منهما عظيم . أعاذنا الله وجميع المسلمين من الزيغ والضلال ، آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون .
لا تتبع أقوال كل مارد غاو مضل مارق معاند
فليس بعد رد ذا التبيان مثقال ذرة من الإيمان
.
( لا تتبع ) أيها العبد ( أقوال كل مارد ) على بدعته وزندقته واتباع هواه ( غاو ) زائغ في دينه ، مفتون في عقيدته ( مضل ) لغيره ( مارق ) من الإسلام ( معاند )
[ ص: 369 ] لنصوص الكتاب والسنة وما دلت عليه ، مكذب بالكتاب وبما أرسل إليه به رسله ، ( فليس ) لله يبقى ( بعد رد ذا التبيان ) الذي جاء في الكتاب والسنة من الآيات المحكمة الصريحة ، والأحاديث الثابتة الصحيحة ( مثقال ذرة من الإيمان ) في قلب من رد ذلك ; لأن الله - تعالى - هو الحق ، وقوله الحق (
فماذا بعد الحق إلا الضلال ) ، ( يونس : 32 ) ، وقال تعالى : (
وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ) ، ( الأنعام : 48 ) ، وقال تعالى : (
ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد ) ، ( غافر : 4 ) ، وقال تعالى : (
إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا ) ، ( فصلت : 40 ) ، وقال تعالى : (
ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ) ، ( النمل : 83 - 85 ) ، وهذه الآيات يدخل فيها كل مكذب بأي شيء من الكتاب ، فكيف إذا كذب بصفات منزل الكتاب ، بل جحد أن يكون الله - تعالى - تكلم بالكتاب ، ألا لعنة الله على الظالمين .