وليس معنى قوله : ( وهو معكم ) أنه مختلط بالخلق ؛ فإن هذا لا توجبه ، اللغة ، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته ، وهو موضوع في السماء ، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان .
وهو سبحانه فوق عرشه ، رقيب على خلقه ، مهيمن عليهم ، مطلع عليهم . . إلى غير ذلك من معاني ربوبيته .
[ ص: 228 ] وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته ، لا يحتاج إلى تحريف ، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة ؛ مثل أن يظن أن ظاهر قوله : ( في السماء ) ؛ أن السماء تظله أو تقله ، وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان ؛ فإن الله قد وسع كرسيه السماوات والأرض ، وهو يمسك السماوات والأرض أن تزولا ، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ) .
ش قوله : ( وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان . . ) إلخ .
صرح المؤلف هنا بمسألة علو الله تعالى واستوائه على عرشه بائنا من خلقه ؛ كما أخبر الله عن ذلك في كتابه ، وكما تواتر الخبر بذلك عن رسوله ، وكما أجمع عليه سلف الأمة الذين هم أكملها علما وإيمانا ، مؤكدا بذلك ما سبق أن ذكره في هذا الصدد ، ومشددا النكير على من أنكر ذلك منالجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الأشاعرة .
ثم بين أن استواءه على عرشه لا ينافي معيته وقربه من خلقه ؛ فإن المعية ليس معناها الاختلاط والمجاورة الحسية .
وضرب لذلك مثلا بالقمر الذي هو موضوع في السماء ، وهو مع المسافر وغيره أينما كان ؛ بظهوره واتصال نوره ، فإذا جاز هذا بالنسبة للقمر ، وهو من أصغر مخلوقات الله ؛ أفلا يجوز بالنسبة إلى اللطيف الخبير الذي أحاط بعباده علما وقدرة ، والذي هو شهيد مطلع عليهم ، يسمعهم ، ويراهم ، ويعلم سرهم ونجواهم ، بل العالم كله سماواته وأرضه من العرش [ ص: 229 ] إلى الفرش كله بين يديه سبحانه ؛ كأنه بندقة في يد أحدنا ؛ أفلا يجوز لمن هذا شأنه أن يقال : إنه مع خلقه مع كونه عاليا عليهم بائنا منهم فوق عرشه ؟ ! بلى ؛ يجب الإيمان بكل من علوه تعالى ومعيته ، واعتقاده أن ذلك كله حق على حقيقته ، من غير أن يساء فهم ذلك ، أو يحمل على معان فاسدة ؛ كأن يفهم من قوله : ( وهو معكم ) معية الاختلاط والامتزاج ؛ كما يزعمه الحلولية ! أو يفهم من قوله : ( في السماء ) أن السماء ظرف حاو له محيط به ! كيف وقد وسع كرسيه السماوات والأرض جميعا ؟ ! وهو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ؟ ! فسبحان من لا يبلغه وهم الواهمين ، ولا تدركه أفهام العالمين .