وقد تنازع الناس حول هذه المسألة نزاعا كبيرا : فمنهم من جعل كلامه سبحانه مخلوقا منفصلا منه ، وقال : إن معنى ( متكلم ) : خالق للكلام ، وهم المعتزلة ، ومنهم من جعله لازما لذاته أزلا وأبدا ، لا يتعلق بمشيئته وقدرته ، ونفى عنه الحرف والصوت ، وقال : إنه معنى واحد في الأزل ، وهم الكلابية والأشعرية ، ومنهم من زعم أنه حروف وأصوات قديمة لازمة للذات ، وقال : إنها مقترنة في الأزل ، فهو سبحانه لا يتكلم بها شيئا بعد شيء ، وهم بعض الغلاة ، ومنهم من جعله حادثا قائما بذاته تعالى ، ومتعلقا بمشيئته وقدرته ، ولكن زعم أن له ابتداء في ذاته ، وأن الله لم يكن متكلما في الأزل ، وهم الكرامية ، [ ص: 183 ] ويطول بنا القول لو اشتغلنا بمناقشة هذه الأقوال وإفسادها ، على أن فسادها بين لكل ذي فهم سليم ، ونظر مستقيم .
وخلاصة مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة أن الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ، وأن الكلام صفة له قائمة بذاته ، يتكلم بها بمشيئته وقدرته ، فهو لم يزل ولا يزال متكلما إذا شاء ، وما تكلم الله به فهو قائم به ليس مخلوقا منفصلا عنه ؛ كما تقول المعتزلة ، ولا لازما لذاته لزوم الحياة لها ؛ كما تقول الأشاعرة ؛ بل هو تابع لمشيئته وقدرته .
والله سبحانه نادى موسى بصوت ، ونادى آدم وحواء بصوت ، وينادي عباده يوم القيامة بصوت ، ويتكلم بالوحي بصوت ، ولكن الحروف والأصوات التي تكلم الله بها صفة له غير مخلوقة ، ولا تشبه أصوات المخلوقين وحروفهم ؛ كما أن علم الله القائم بذاته ليس مثل علم عباده ؛ فإن الله لا يماثل المخلوقين في شيء من صفاته .
والآيتان الأوليان هنا وهما من سورة النساء تنفيان أن يكون أحد أصدق حديثا وقولا من الله عز وجل ، بل هو سبحانه أصدق من كل أحد في كل ما يخبر به ، وذلك لأن علمه بالحقائق المخبر عنها أشمل وأضبط ، فهو يعلمها على ما هي به من كل وجه ، وعلم غيره ليس كذلك .
وأما قوله : وإذ قال الله ياعيسى . . إلخ ؛ فهو حكاية لما سيكون يوم القيامة من سؤال الله لرسوله وكلمته عيسى عما نسبه إليه الذين [ ص: 184 ] ألهوه وأمه من النصارى من أنه هو الذي أمرهم بأن يتخذوه وأمه إلهين من دون الله .
وهذا السؤال لإظهار براءة عيسى عليه السلام ، وتسجيل الكذب والبهتان على هؤلاء الضالين الأغبياء .
وأما قوله : وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ؛ فالمراد صدقا في أخباره ، وعدلا في أحكامه ؛ لأن كلامه تعالى إما أخبار ، وهي كلها في غاية الصدق ، وإما أمر ونهي ، وكلها في غاية العدل الذي لا جور فيه ؛ لابتنائها على الحكمة والرحمة .
والمراد بالكلمة هنا الكلمات ؛ لأنها أضيفت إلى معرفة ، فتفيد معنى الجمع ؛ كما في قولنا : رحمة الله ونعمة الله .
وأما قوله : وكلم الله موسى تكليما وما بعدها من الآيات التي تدل على أن الله قد نادى موسى وكلمه تكليما ، وناجاه حقيقة من وراء حجاب ، وبلا واسطة ملك ؛ فهي ترد على الأشاعرة الذين يجعلون الكلام معنى قائما بالنفس ؛ بلا حرف ، ولا صوت ! فيقال لهم : كيف سمع موسى هذا الكلام النفسي ؟ فإن قالوا : ألقى الله في قلبه علما ضروريا بالمعاني التي يريد أن يكلمه بها ؛ لم يكن هناك خصوصية لموسى في ذلك .
وإن قالوا : إن الله خلق كلاما في الشجرة أو في الهواء ، ونحو ذلك ؛ لزم أن تكون الشجرة هي التي قالت لموسى : إني أنا ربك .
[ ص: 185 ] وكذلك ترد عليهم هذه الآيات في جعلهم الكلام معنى واحدا في الأزل ، لا يحدث منه في ذاته شيء ، فإن الله يقول : ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ؛ فهي تفيد حدوث الكلام عند مجيء موسى للميقات ، ويقول : وناديناه من جانب الطور الأيمن ؛ فهذا يدل على حدوث النداء عند جانب الطور الأيمن .
والنداء لا يكون إلا صوتا مسموعا .
وكذلك قوله تعالى في شأن آدم وحواء : وناداهما ربهما . . الآية ؛ فإن هذا النداء لم يكن إلا بعد الوقوع في الخطيئة ، فهو حادث قطعا .
وكذلك قوله تعالى : ويوم يناديهم . . إلخ ؛ فإن هذا النداء والقول سيكون يوم القيامة .