الوجه الحادي والعشرون : قوله : وكذلك أيضا
حذف المضاف مجاز ، وقد كثر ، حتى إن في القرآن الذي هو أفصح الكلام منه أكثر من ثلاثمائة موضع ، جوابه من وجهين أحدهما : أن أكثر المواضع التي ادعي فيها الحذف في القرآن لا يلزم فيها الحذف ولا دليل على صحة دعواه كقوله : (
وكم من قرية أهلكناها ) ، (
وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله ) إلى أمثال ذلك ، فادعى أهل المجاز أن ذلك كله من مجاز الحذف ، وأن التقدير في ذلك كله أهل القرية ، وهذا غير لازم ، فإن القرية اسم للقوم المجتمعين في مكان واحد ، فإذا نسب إلى القرية فعل أو حكم عليها بحكم أو أخبر عنها بخبر كان في الكلام ما يدل على إرادة المتكلم من نسبة ذلك إلى الساكن أو المسكن ، أو هو حقيقة في هذا وهذا ، وليس ذلك من باب الاشتراك اللفظي ، بل القرية موضوعة للجماعة الساكنين بمكان واحد ، فإذا أطلقت تناولت الساكن والمسكن ، وإذا قيدت بتركيب خاص واستعمال خاص كانت فيما قيدت به ، فقوله تعالى : (
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة ) حقيقة في الساكن .
[ ص: 352 ] وكذلك لفظة القرية في عامة القرآن إنما يراد بها الساكن فتأمله ، وقد يراد بها المسكن خاصة ، فيكون في السياق ما يعينه كقوله تعالى : (
أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ) أي ساقطة على سقوفها ، وهذا التركيب يعطي المراد ، فدعوى أن هذا حقيقة القرية ، وأن قوله : (
وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله ) ونحوه مجاز ، تحكم بارد لا معنى له ، وهو بالضد أولى ، إذ قد اطرد استعمال القرية إلى الساكن ، وحقيقة الأمر أن اللفظة موضوعة للساكن باعتبار المسكن ، ثم قد يقصد هذا دون هذا ، وقد يرادان معا فلا مجاز هاهنا ولا حذف ، وتخلصت بهذا من ادعاء الحذف فيما شاء الله من المواضع التي زعم أنها تزيد على ثلاثمائة .
الوجه الثاني : أن هذا الحذف الذي يزعمه هؤلاء ليس بحذف في الحقيقة فإن قوة الكلام تعطيه ، ولو صرح المتكلم بذكره كان عيا وتطويلا مخلا بالفصاحة كقوله : (
ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ) قالوا : هذا مجاز تقديره : ما أفاء الله من أموال القرى ، وهذا غلط وليس بمجاز ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير ، والمعنى مفهوم بدون هذا التقدير ، فالقائل اتصل إلي من فلان ألف ، يصح كلامه لفظا ومعنى بدون تقدير ، فإن ( من ) للابتداء في الغاية ، فابتداء الحصول من المجرور بمن ، وكذلك في الآية .
يوضحه أن
التقدير إنما يتعين حيث لا يصح الكلام بدونه ، فأما إذا استقام الكلام بدون التقدير من غير استكراه ولا إخلال بالفصاحة كان التقدير غير مفيد ولا يحتاج إليه ، وهو على خلاف الأصل ، فالحذف المتعين تقديره كقوله : (
ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ) وقوله : (
ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ) ونحو ذلك .
وأما نحو قوله : (
فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ) فليس هناك تقدير أصلا إذ الكلام مستغن بنفسه غير محتاج إلى تقدير ، فإن الذي يدعي تقديره قد دل اللفظ عليه باللزوم ، فكأنه مذكور ، لأن اللفظ يدل بلازمه كما يدل بحروفه ، ولا
[ ص: 353 ] يقال لما دل عليه دلالة التزام إنه محذوف ، فتأمله فإنه منشأ غلط هؤلاء في كثير مما يدعون فيه الحذف .
نعم هاهنا قسم آخر مما يدعى فيه حذف المضاف وتقديره كقوله : (
وجاء ربك ) أي أمره (
هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ) أي أمره ، وقوله : (
فأتى الله بنيانهم ) أي أمره ، وقوله عليه صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347291ينزل ربنا كل ليلة " ، وأمثال ذلك ، فهذا قد ادعى تقدير المضاف فيه ، ولكن دعوة مجردة مستندة إلى قاعدة من قواعد التعطيل ، وهي
إنكار أفعال الرب تعالى ، وأنه لا يقوم به فعل البتة ، بل هو فاعل بلا فعل .
وأما من أثبت أن
الرب فاعل حقيقة ، وأنه يستحيل أن يكون فاعلا بلا فعل ، ويستحيل أن يكون الفعل عين المفعول ، بل هي حقائق معتبرة فاعل وفعل ومفعول ، هذا هو المفعول في فطر بني آدم ، فإنه لا يحتاج إلى هذا التقدير ولا يجوزه ، فإن حذفه يكون من باب التلبيس ويرفع الوثوق بكلام المتكلم ، ويوقع التحريف ، فإنه لا يشاء أحد أن يقدر مضافا يخرج به الكلام عن مقتضاه إلا فعل ، وارتفع الوثوق والفهم والتفهيم .
فيقدر الملحد في قوله تعالى : (
وأن الله يبعث من في القبور ) مضافا تقديره أرواح من في القبور ، وفي قوله تعالى : (
يحيي الموتى ) أي أرواح الموتى ، وقوله : (
ولله على الناس حج البيت ) وأمثال ذلك مما يقدر فيه مضاف يخرج الكلام عن ظاهره .
فهذا مما ينبغي التنبه له ، وأنه ليس كل موضع يقبل تقدير المضاف ، ولا كل ما قبله جاز تقديره حتى يكون في الكلام ما يدل على التقدير دلالة ظاهرة ، ولا توقع اللبس بحيث لا يجد السامع بدا من التقدير ، كما يقول القائل : سافرنا في الثريا أي في نوئها ، وجلسنا في الشمس ، أي في حرها ، وهذا مما يعلم بالسياق ، فكأنه مذكور لم يفت إلا التلفظ به ، ومثل هذا لا يقال إنه مجاز ، فإن اللفظ بمجموعه دال على المراد ، والمتكلم قد يختصر ليحفظ كلامه ، وقد يبسط ويطيل ليزيد في الإيضاح والبيان ، والإيجار والاختصار ، والإسهاب والإطناب طريقان للمتكلم ، يسلك هذه مرة وهذه
[ ص: 354 ] مرة ، وهذا في كل لغة ، فإذا اختصر ودل على المراد لا يقال تكلم بالمجاز ، يوضحه :
الوجه الثاني والعشرون : أن أكثر ما يدعى فيه الحذف لا يحتاج فيه إليه ولا على صحة دعواه دليل سوى الدعوى المجردة ، فمن أشهر ما يدعى فيه الحذف
التحريم والتحليل والمضاف إلى الأعيان نحو : (
حرمت عليكم الميتة ) ، (
حرمت عليكم أمهاتكم ) ، (
أحلت لكم بهيمة الأنعام ) ونظائره ، قالوا : لأن التحريم والإباحة والكراهة والإيجاب طلب لا يتصور تعلقه بالأعيان لاستحالة إيجاد المكلف لهما ، وإنما يتعلق بالأفعال الواقعة فيها ، فهي التي توصف بالحل والحرمة والكراهة .
وأما الأعيان فلا توصف بذلك إلا مجازا ، فإذا قال : حرمت الميتة كان التقدير أكلها ، كما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347292إنما حرم عليكم من الميتة أكلها " وحرمت الخمر ، أي شربها ، والحرير أي لبسه ، وأمهاتكم ، أي نكاحهن ، ولما كان في الكلام محذوف ، قالت طائفة : لا يمكن إضمار كل فعل ، إذ العموم من عوارض الألفاظ ، ودلالة الحذف والإضمار لا عموم لها ، فيكون مجملا .
وقالت طائفة : بل المقدر كالملفوظ ، فتارة يكون عاما وتارة يكون خاصا ، وهذا بحسب الفعل المطلوب من تلك العين ، فتحريم ما يشرب تحريم شربه ، وما يؤكل تحريم أكله ، وما يلبس تحريم لبسه ، وما يركب تحريم ركوبه من غير أن توصف الأعيان بالحل والحرمة .
وقالت طائفة : هذا ثابت من جهة اللزوم وإلا فالتحريم والإباحة واقع على نفس الأعيان ويصح وصف الأعيان بذلك حقيقة باعتبار الألفاظ المطلوب منها ، قالوا : وهذا كما توصف بأنها محبوبة أو مكروهة في نفسها ، وإنما الحب والكراهة والبغض متعلق بأفعالنا فيها .
قيل : هذا مكابرة ظاهرة ، فإنا نجد من أنفسنا وجدانا ضروريا محبة بعض الأعيان وبغض بعضها ، ويعلم كل عاقل صحة قول القائل : هذا الشيء محبوب ، وهذا مكروه ، وذلك حقيقة لا مجاز ، فأي عقل وشرع ولغة يمنع من اتصاف الأعيان أنفسها بكونها مباحة أو محرمة كما توصف بكونها محبوبة أو مكروهة .
[ ص: 355 ] وقول القائل : إن
الأعيان لا تدخل تحت الطلب ، يقال له : هذا من وهمك حيث ظننت أن تحريمها وتحليلها طلب لإيجادها وعدمها ، فإن هذا لا يفهمه أحد ولا يخطر ببال السامع أصلا ، وإنما يفهم كونها حلالا أو حراما الإذن في تناوله والمنع منه ، هذا حقيقة اللفظ وموضوعه وعرف استعماله ، والتركيب مرشد إلى فهم المعنى ، ولم يوضع لفظ التحريم والتحليل لإحداث الأعيان ولا إعدامها ولا استعمل في ذلك ولا فهمه أحد أصلا ، وإنما حقيقته ما يفهم المخاطب منه فله وضع ، وفيه استعمل ، ومنه فهم ، فإذا سمع المخاطب : هذه المرأة حرام عليك ، لم يشك في المعنى ولم يتوقف فهمه له على تقدير محذوف وإضمار مضاف ، ولم يخطر بباله أن هذا الكلام مجاز لا حقيقة .
ولما سمع المؤمنون قوله تعالى : (
حرمت عليكم أمهاتكم ) إلى آخرها ، لم يقع في قلوبهم أن هذا مجاز ولا خطر ببالهم غير حقيقته ومفهومه ، وهذا كله إنما نشأ من قبل المتولجين المتكلفين ، ألا ترى أن الذين نزل القرآن بلغتهم لم يختلفوا في ذلك ولم يتكلفوا هذه التقادير ، بل كانوا أفقه من ذلك وأصح أفهاما وأعلى طلبا ، وإنما لهج المتأخرون بذلك لما نزلت مرتبتهم وتقاصرت أفهامهم وعلومهم من علوم أولئك .
وهل سمع عربي قط ولو من أجلاف العرب قوله تعالى : (
حرمت عليكم أمهاتكم ) ، (
وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) ، (
وأحل لكم ما وراء ذلكم ) ، ونظائره ، فأصابهم ما أصاب هؤلاء من البحث عن كون ذلك حقيقة أو مجازا أو مجملا لا يدري المراد منه ؟ وهل توقف في فهم المراد على إضمار وحذف ، ثم فكر وقدر في تعيينه ؟
ولما قال سبحانه : (
وحرمنا عليه المراضع من قبل ) فهم السامع المراد من غير أن يخطر بباله حذف ولا إضمار ، وكذلك قوله تعالى : (
فإنها محرمة عليهم أربعين سنة ) فإذا ظهر مراد المتكلم وفهم السامع فأي حاجة إلى دعوى محذوف يحكم على المتكلم أنه أراده ، وأنه لا يصح الكلام بدونه ، ويوضحه :
الوجه الثالث والعشرون : أن
الأعيان توصف بكونها طيبة وخبيثة ونافعة وضارة فكذلك توصف بكونها حلالا وحراما ، إذ الحل والحرمة تبع طيبها وخبيثها وكونها
[ ص: 356 ] ضارة ونافعة ، كما قال تعالى : (
ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) ولا بد أن يكون الحلال طيبا في نفسه ، والحرام خبيثا في نفسه ، فوصفه بكونه حلالا أو حراما جار مجرى وصفه بكونه طيبا أو خبيثا ، ودلالة تحريم العين وتحليلها على الفعل المتعلق بها من باب دلالة الالتزام .
وقد علمت أن ما يدل بالالتزام لا يقال فيه : إنه محذوف مقدر ، فالقائل لغيره : اصعد السطح ، قد دله بالالتزام على الصعود في السلم ، ولا يقال في الكلام مضمرا محذوفا ، وهو بدون ذكره مجازا ، ولو كان كذلك ، لكان كل كلام له لازم يذكر معه لازمه مجازا ، وهذا لا يقوله إلا من لا يدري ما يقول ، فإن الرجل إذا قال ( تعال ) فله لازم وهو قطع المسافات ، وإذا قال ( كل ) فله لازم وهو تناول المأكول ، وكذلك كل خطاب في الدنيا له لازم يدل عليه باللزوم ، فافتحوا باب الحذف والإضمار في ذلك كله وقولوا : إن الكلام بدون ذكره مجاز ، وإلا فما الفرق بين ما ادعيتم إضماره وبين ما ذكرناه ، فأي فرق بين اصعد السطح وبين اطبخ اللحم واخبز العجين وابن الحائط ، فهذا له لوازم وهذا له لوازم ، والمتكلم لا يجب عليه ذكر اللزوم ، بل ذكرها عي وتطويل .
الوجه الرابع والعشرون : قوله : وأما قول الله عز وجل : (
وكلم الله موسى تكليما ) فليس هو من باب المجاز بل هو حقيقة .
فيقال له : ما أسرع ما هدمت جميع ما بنيته ، ونقضت كل ما أصلته ، فإنك قدمت في أول الباب أن الفعل يقتضي جميع أفراد المصدر ، وهذا محال ، فالأفعال عامتها مجاز ، وقدمت أن خلق السماوات والأرض مجاز ، وعلم الله مجاز ، فما بال (
وكلم الله موسى تكليما ) وحده حقيقة من بين سائر الأفعال ، ومن العجب أن يكون خلق الله السماوات والأرض وعلم الله عندك مجازا وهو أظهر للأمم من كل ظاهر ، و (
وكلم الله موسى تكليما ) حقيقة ، وفيه من أظهر الخلاف والخفاء ما لا يخفى ، ونحن لا نشك أن الجميع حقيقة ، ومن قال إن ذلك أو بعضه مجاز فهو ضال ، ولكن القائلون بأن " كلم الله موسى " مجاز ، يقولون : إن
خلق الله وعلم الله حقيقة ، وهم
الجهمية والكلابية ، وأما القائلون بخلق القرآن فلهم قولان : أكثرهم يقول : إنه مجاز ، وبعضهم
[ ص: 357 ] يقول : إنه حقيقة ، وكلم الله ويكلم حقيقة في خلق حروف وأصوات يكون متكلما مكلما ، والمتكلم عندهم حقيقة من فعل الكلام وحقيقة الكلام عندهم هي الحروف والأصوات ، وأصابوا في ذلك لكن أخطئوا في اعتقادهم أن المتكلم من فعل الكلام في غيره ولم يقم به ، فالكلام عندهم مخلوق ، والرب لم يقم به عندهم كلام ولا أمر ولا نهي ، وهؤلاء الذين اتفق السلف وأئمة الإسلام على تكفيرهم .
الوجه الخامس والعشرون : أنهم إذا قالوا : المتكلم من فعل الكلام في غيره فصار بذلك متكلما دون المحل الذي قام به الكلام ، فقد قلبوا أوضاع اللغات ، وخرجوا عن المعقول وعن لغات الأمم قاطبة ، فإن الله تعالى لو اتصف بما يحدثه في غيره من الأعراض والصفات لكان اسود بالسواد الذي يخلقه في المحل ، وكذلك إذا خلق في محل بياضا أو حمرة أو طولا أو قصرا أو حركة كان المحل الذي قامت به هذه الصفات والأعراض هو الموصوف بها حقيقة لا الخالق لها ، فالصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها إلى ذلك لا إلى غيره ، واشتق له منها اسم لم يشتق لغيره ، وأخطأ القائلون بخلق القرآن في هذه المسائل الأربع وأخلوا المحل عن حكم الصفة وأعادوه إلى غيره من قامت به ، واشتقوا الاسم لمن لم تقم به دون من قامت به فقلبوا الحقائق .