فصل
وإذا قيل حروف المعجم قديمة أو مخلوقة ، فجوابه أن الحرف حرفان : فالحرف الواقع في كلام المخلوقين مخلوق ، وحروف القرآن غير مخلوقة .
فإن قيل : كيف الحرف الواحد مخلوق وغير مخلوق .
قيل : ليس بواحد بالعين وإن كان واحدا بالنوع ، كما أن الكلام ينقسم إلى مخلوق وغير مخلوق ، فهو واحد بالنوع لا بالعين .
وتحقيق ذلك أن الشيء له أربع مراتب : مرتبة في الأعيان ، ومرتبة في الأذهان ، ومرتبة في اللسان ، ومرتبة في الخط ، فالمرتبة الأولى وجوده العيني ، والثانية وجوده الذهني ، والثالثة وجوده اللفظي ، والرابعة وجوده الرسمي ، وهذه المراتب الأربعة تظهر في الأعيان القائمة بنفسها ، كالشمس مثلا وفي أكثر الأعراض أيضا كالألوان وغيرها ، ويعسر تمييزه في بعضها كالعلم والكلام ، أما العلم فلا يكاد يحصل الفرق بين مرتبته في الخارج ومرتبته في الذهن ، بل وجوده الخارجي مماثل لوجوده الذهني ، وأما الكلام فإن وجوده الخارجي ما قام باللسان ، ووجوده الذهني ما قام بالقلب ، ووجوده الرسمي ما أظهر الرسم ، فأما وجوده اللفظي فقد اتحدت فيه المرتبتان الخارجية
[ ص: 509 ] واللفظية ، ومن مواقع الاشتباه أيضا أن الصوت الذي يحصل له إنشاء الكلام مثل الصوت الذي يحصل به أداؤه وتبليغه ، وكذلك الحرف ، فصوت
امرئ القيس وحروفه من قوله :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
كصوت المنشد لذلك حكاية عنه وحرفه ، فإذا قال القائل : هذا كلامك أو كلام
امرئ القيس ؟ كان السؤال مجملا تحتمل الإشارة فيه معنيين أحدهما : أن يراد الإشارة إلى صوت المؤدي وحروفه ، والثاني : أن يراد الإشارة إلى الكلام المؤدى بصوت هذا وحروفه ، والغالب إرادته هو الثاني ، ولهذا يحمد القائل له أولا أو يذم ، وإنما يحمد الثاني أو يذم على كيفية الأداء وحسن الصوت وقبحه .
والكلام يضاف إلى من قاله مبتديا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا ، فإذا قال الواحد منا :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347477الأعمال بالنيات ، مؤديا له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل أحد إن هذا قولك وكلامك .
وإن قيل إنك حسن الأداء له ، حسن التلفظ به ، وهذا الذي قام به وهو حسنه وفعله وعليه يقع اسم الخلق ، ولشدة ارتباطه بأصل الكلام عسر التمييز .
ومن هاهنا غلطت الطائفتان إحداهما : جعلت الكل مخلوقا منفصلا ، والثانية : جعلت الكل قديما ، وهو عين صفة الرب نظرا إلى من تكلم به أولا .
والحق ما عليه أئمة الإسلام
nindex.php?page=showalam&ids=12251كالإمام أحمد nindex.php?page=showalam&ids=12070والبخاري وأهل الحديث : أن الصوت صوت القارئ والكلام كلام الباري .
وقد اختلف الناس
هل التلاوة غير المتلو أم هي المتلو ؟ على قولين ، والذين قالوا : التلاوة هي المتلو ، فليست حركات الإنسان عندهم هي التلاوة ، وإنما أظهرت التلاوة وكانت سببا لظهورها ، وإلا فالتلاوة عندهم هي نفس الحروف والأصوات وهي قديمة ، والذين قالوا التلاوة غير المتلو طائفتان :
إحداهما قالت : التلاوة هي هذه الحروف والأصوات المسموعة ، وهي مخلوقة ، والمتلو هي المعنى القائم بالنفس وهو قديم ، وهذا قول
الأشعري .
والطائفة الثانية قالوا : التلاوة هي قراءتنا وتلفظنا بالقرآن ، والمتلو هو القرآن العزيز والمسموع بالآذان بالأداء من في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ( المص ) ( حم ) ( عسق ) ( كهيعص ) حروف وكلمات وسور وآيات تلاه عليه
جبرائيل كذلك وتلاه هو على الأمة كما تلاه عليه
جبرائيل ، وبلغه
جبرائيل عن الله تعالى كما سمعه ، وهذا
[ ص: 510 ] قول السلف وأئمة السنة والحديث ، فهم يميزون بين ما قام بالعبد وما قام بالرب ، والقرآن عندهم جميعه كلام الله ، حروفه ومعانيه ، وأصوات العباد وحركاتهم ، وأداؤهم وتلفظهم ، كل ذلك مخلوق بائن عن الله .
فإن قيل : فإذا كان الأمر كما قررتم فكيف أنكر
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد على من قال : لفظي بالقرآن مخلوق . وبدعه ونسبه إلى التجهم ، وهل كانت محنة
nindex.php?page=showalam&ids=12070أبي عبد الله البخاري إلا على ذلك حتى هجره أهل الحديث ونسبوه إلى القول بخلق القرآن .
قيل : معاذ الله أن يظن بأئمة الإسلام هذا الظن الفاسد ، فقد صرح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في كتابه ( خلق أفعال العباد ) وفي آخر ( الجامع ) بأن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وقال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16008سفيان بن عيينة قال : أدركت مشيختنا منذ سبعين سنة ، منهم
nindex.php?page=showalam&ids=16705عمرو بن دينار يقولون : القرآن كلام الله غير مخلوق .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : وقال
أحمد بن الحسين حدثنا
أبو نعيم حدثنا
سليم القاري قال سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري يقول : قال
nindex.php?page=showalam&ids=15741حماد بن أبي سليمان : أبلغ أبا فلان المشرك أني بريء من دينه ، وكان يقول : القرآن مخلوق ، ثم ساق قصة
nindex.php?page=showalam&ids=14998خالد بن عبد الله القسري وأنه ضحى
nindex.php?page=showalam&ids=14005بالجعد بن درهم وقال إنه زعم أن الله لم يتخذ
إبراهيم خليلا ولم يكلم
موسى تكليما ثم نزل فذبحه .
هذا مذهب الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ومذهب
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وأصحابهما من سائر أهل السنة ، فخفي تفريق
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري وتمييزه على جماعة من أهل السنة والحديث ، ولم يفهم بعضهم مراده وتعلقوا بالمنقول عن
أحمد نقلا مستفيضا أنه قال : من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي : ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع ، وساعد ذلك نوع حسد باطن
nindex.php?page=showalam&ids=12070للبخاري لما كان الله نشر له من الصيت والمحبة في قلوب الخلق واجتماع الناس عليه حيث حل ، حتى هضم كثير من رياسة أهل العلم وامتعضوا لذلك ، فوافق الهوى الباطن الشبهة الناشئة من القول المجمل ، وتمسكوا بإطلاق
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وإنكاره على من قال
[ ص: 511 ] لفظي بالقرآن مخلوق وأنه جهمي ، فتركب من مجموع هذه الأمور فتنة وقعت بين أهل الحديث .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم أبو عبد الله : سمعت
أبا القاسم طاهر بن أحمد الوراق يقول : سمعت
محمد بن شاذان الهاشمي يقول : لما وقع بين
nindex.php?page=showalam&ids=14327محمد بن يحيى ومحمد بن إسماعيل دخلت على
nindex.php?page=showalam&ids=12070محمد بن إسماعيل فقلت : يا
أبا عبد الله إيش الحيلة لنا فيما بينك وبين
nindex.php?page=showalam&ids=14327محمد بن يحيى ، كل من يختلف إليك يطرد من منزله وليس لكم منزل ، قال :
nindex.php?page=showalam&ids=14327محمد بن يحيى كم يعتريه الحسد في العلم ، والعلم رزق من الله تعالى يعطيه من يشاء ، فقلت : يا
أبا عبد الله ، هذه المسألة التي تحكى عندك ، فقال لي هذه مسألة مشئومة رأيت
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل وما ناله من هذه المسألة جعلت على نفسي لا أتكلم فيها ، والمسألة التي كانت بينهما كان
nindex.php?page=showalam&ids=14327محمد بن يحيى لا يجيب فيها إلا ما يحكيه عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل ، فسئل
nindex.php?page=showalam&ids=12070محمد بن إسماعيل فوقف عنها ، وهي أن اللفظ بالقرآن مخلوق ، فلما وقف عنها
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري تكلم فيه
nindex.php?page=showalam&ids=14327محمد بن يحيى وقال : قد أظهر هذا
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري قول اللفظية ، واللفظية شر من
الجهمية .
قال
الحاكم : سمعت
أبا محمد عبد الله بن محمد العدل يقول : سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=12773أبا حامد بن الشرقي يقول : سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=14327محمد بن يحيى يقول : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، وهو قول أئمتنا
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك بن أنس ،
وعبد الرحمن بن عمر nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي nindex.php?page=showalam&ids=16008وسفيان بن عيينة nindex.php?page=showalam&ids=16004وسفيان الثوري ، والكلام
كلام الله غير مخلوق من جميع جهاته ، وحيث تصرف ، فمن لزم ما قلنا استغنى عن اللفظ وعما سواه من الكلام في القرآن ، ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر وخرج من الإيمان وبانت منه امرأته يستتاب ، فإن تاب وإلا ضربت عنقه ، وجعل ماله فيئا بين المسلمين ، ولم يدفن في مقابر المسلمين ، ومن زعم أن لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع ولا يجالس ولا يكلم ، ومن وقف وقال لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق فقد ضاهى الكفر ، ومن ذهب بعد مجلسنا هذا إلى مجلس
nindex.php?page=showalam&ids=12070محمد بن إسماعيل فاتهموه فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه .
قال
الحاكم : وسمعت
nindex.php?page=showalam&ids=11929أبا الوليد حسان بن محمد الفقيه يقول : سمعت
محمد بن نعيم يقول سألت
nindex.php?page=showalam&ids=12070محمد بن إسماعيل nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري لما وقع ما وقع من شأنه عن الإيمان فقال : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، والقرآن كلام الله غير مخلوق ، وأفضل أصحاب رسول الله
أبو بكر ثم
عمر ثم
عثمان ثم
علي رضي الله عنهم ، على هذا حييت
[ ص: 512 ] وعليه أموت وعليه أبعث إن شاء الله تعالى ، ثم قال
أبو الوليد : أي عين أصابت
nindex.php?page=showalam&ids=12070محمد بن إسماعيل بما نقم عليه
nindex.php?page=showalam&ids=14327محمد بن يحيى ، فقلت له إن
nindex.php?page=showalam&ids=12070محمد بن إسماعيل قد بوب في آخر الجامع الصحيح بابا مترجما ( ذكر قراءة الفاجر والمنافق وأن أصواتهم لا تجاوز حناجرهم ) نذكر فيه حديث
قتادة عن
أنس عن
أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347478مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة . . . " الحديث ، وحديث
أبي زرعة عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347479كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان . . . " الحديث ، فقال لي كيف قلت ؟ فأعدته عليه ، فأعجبه ذلك ، وقال : ما بلغني هذا عنه .
ومراد
أبي عبد الله بهذا الاستدلال أن الثقل في الميزان والخفة على اللسان متعلق بفعل العبد وكسبه ، وهو صوته وتلفظه لا يعود إلى ما قام بالرب تعالى من كلامه وصفاته ، وكذلك قراءة البر والفاجر ، فإن قراءة الفاجر لا تجاوز حنجرته ، فلو كانت قراءته هي نفس ما قام بالرب من الكلام وهي غير مخلوقة لم تكن كذلك ، فإنها متصلة بالرب حينئذ .
nindex.php?page=showalam&ids=12070فالبخاري أعلم بهذه المسألة وأولى بالصواب فيها من جميع من خالفه ، وكلامه أوضح وأمتن من كلام
أبي عبد الله ، فإن
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد سد الذريعة حيث منع إطلاق لفظ المخلوق نفيا وإثباتا على اللفظ ، فقالت طائفة : أراد سد باب الكلام في ذلك ، وقالت طائفة منهم
ابن قتيبة : إنما كره
أحمد ذلك ومنع ; لأن اللفظ في اللغة الرمي والإسقاط يقال لفظ الطعام من فيه ولفظ الشيء من يده إذا رمى به ، فكره
أحمد إطلاق ذلك على القرآن ، وقال طائفة : إنما مراد
أحمد أن اللفظ غير الملفوظ فلذلك قال : إن من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق فهو جهمي .
وأما منعه أن يقال : لفظي بالقرآن غير مخلوق ، فإنما منع ذلك لأنه عدول عن نفس قول السلف ، فإنهم قالوا القرآن غير مخلوق ، والقرآن اسم يتناول اللفظ والمعنى ، فإذا خص اللفظ بكونه غير مخلوق كان ذلك زيادة في الكلام أو نقصا من المعنى ، فإن القرآن كله غير مخلوق ، فلا وجه لتخصيص ذلك بألفاظ خاصة ، وهذا كما لو قال قائل : السبع الطوال من القرآن غير مخلوقة فإنه وإن كان صحيحا ، لكن هذا التخصيص ممنوع منه ، وكل هذا عدول عما أراده
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد .
[ ص: 513 ] وهذا المنع في النفي والإثبات من كمال علمه باللغة والسنة وتحقيقه لهذا الباب فإنه امتحن به ما لم يمتحن به غيره ، وصار كلامه قدوة وإماما لحزب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ، والذي قصده
أحمد أن اللفظ يراد به أمران أحدهما : الملفوظ نفسه وهو غير مقدور للعبد ولا فعل له ، الثاني : التلفظ به والأداء له وفعل العبد ، فإطلاق الخلق على اللفظ قد توهم المعنى الأول وهو خطأ ، وإطلاق نفي الخلق عليه قد يوهم المعنى الثاني وهو خطأ ، فمنع الإطلاقين .
nindex.php?page=showalam&ids=12070وأبو عبد الله البخاري ميز وفصل وأشبع الكلام في ذلك وفرق بين ما قام بالرب وبين ما قام بالعبد ، وأوقع المخلوق على تلفظ العباد وأصواتهم وحركاتهم وأكسابهم ، ونفى اسم الخلق عن الملفوظ وهو القرآن الذي سمعه
جبرائيل من الله تعالى وسمعه
محمد من
جبرائيل ، وقد شفى في هذه المسألة في كتاب ( خلق أفعال العباد ) وأتى فيها من الفرقان والبيان بما يزيل الشبهة ، ويوضح الحق ، ويبين محله من الإمامة والدين ، ورد على الطائفتين أحسن الرد .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12070أبو عبد الله البخاري : فأما ما احتج الفريقان لمذهب
أحمد ويدعيه كل لنفسه فليس بثابت كثير من أخبارهم ، وربما لم يفهموا دقة مذهبه ، بل المعروف عن
أحمد وأهل العلم أن كلام الله تعالى غير مخلوق ، وما سواه فهو مخلوق ، وأنهم كرهوا البحث والتفتيش عن الأشياء الغامضة وتجنب أهل الكلام والخوض والتنازع إلا فيما جاء به العلم وبينه النبي صلى الله عليه وسلم .
والفريقان اللذان عناهما
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري وتصدى للرد عليهما وإبطال قولهما ، ثم أخبر
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري أن كل واحدة من الطائفتين الزائغتين تحتج
بأحمد ، وتزعم أن قولها قوله ، وهو كما قال رحمه الله تعالى فإن أولئك اللفظية يزعمون أنه كان يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق ، وأنه على ذلك استقر أمره ، وهذا قول من يقول التلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء والكتابة هي المكتوب .
والطائفة الثانية الذين يقولون : التلاوة والقراءة مخلوقة ، ويقولون : ألفاظنا بالقرآن مخلوقة ، ومرادهم بالتلاوة والقرآن نفس ألفاظ القرآن العربي الذي سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمتلو المقروء عندهم هو المعنى القائم بالنفس وهو غير مخلوق ، وهو اسم للقرآن ، فإذا قالوا : القرآن غير مخلوق أرادوا به ذلك المعنى وهو المتلو المقروء ، وأما المقروء المسموع المثبت في المصاحف فهو عبارة عنه وهو مخلوق ، وهؤلاء يقولون
[ ص: 514 ] التلاوة غير المتلو ، والقراءة غير المقروء ، والكتابة غير المكتوب وهي مخلوقة ، والمتلو المقروء غير مخلوق ، وهو غير مسموع ، فإنه ليس بحروف ولا أصوات .
والفريقان مع كل منهما حق وباطل ، فنقول وبالله التوفيق : أما الفريق الأول فأصابوا في قولهم إن الله تعالى تكلم بهذا القرآن على الحقيقة حروفه ومعانيه تكلم به بصوته وأسمعه من شاء من ملائكته ، وليس هذا القرآن العربي مخلوقا من جملة المخلوقات ، وأخطئوا في قولهم : إن هذا الصوت المسموع من القارئ هو الصوت القائم بذات الرب تعالى وأنه غير مخلوق ، وأن تلاوتهم وقراءتهم وألفاظهم القائمة بهم غير مخلوقة ، فهذا غلو في الإثبات يجمع بين الحق والباطل .
وأما الفريق الثاني فأصابوا في قولهم : إن أصوات العباد وتلاوتهم وقراءتهم وما قام بهم من أفعالهم وتلفظهم بالقرآن وكتابتهم له مخلوق ، وأخطئوا في قولهم إن هذا القرآن العربي الذي بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله مخلوق ، ولم يكلم به الرب ولا سمع منه ، وأن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه ليس بحرف ولا سور ولا آيات ، ولا له بعض ولا كل وليس بعربي ولا عبراني ، بل هذه عبارات مخلوقة تدل على ذلك المعنى .
والحرب واقع بين هذين الفريقين من بعد موت
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد إلى الآن ، فإنه لما مات
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد قال طائفة ممن ينسب إليه ، منهم
محمد بن داود المصيصي وغيره : ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة ، وحكوا ذلك عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد فأنكر عليهم صاحب
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وأخص الناس به
nindex.php?page=showalam&ids=15202أبو بكر المروذي ذلك ، وصنف كتابا مشهورا ذكره
الخلال في السنة ثم نصر هذا القول
أبو عبد الله بن حامد nindex.php?page=showalam&ids=12176وأبو نصر السجزي وغيرهما ، ثم نصره بعدهم القاضي
أبو يعلى وغيره ثم
nindex.php?page=showalam&ids=12737ابن الزاغوني وهو خطأ على
أحمد .
فقابل هؤلاء الفريق الثاني وقالوا : إن نفس هذه الألفاظ مخلوقة لم يتكلم الله بها ولم تسمع منه ، وإنما كلامه هو المعنى القائم بنفسه ، وقالوا : هذا قول
أحمد .
nindex.php?page=showalam&ids=12070والبخاري وأئمة السنة برآء من هذين القولين ، والثابت المتواتر عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد هو ما نقله عنه خواص أصحابه وثقاتهم ، كما بينه
صالح وعبد الله المروذي وغيرهم : من الإنكار على الطائفتين جميعا كما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ،
فأحمد nindex.php?page=showalam&ids=12070والبخاري على خلاف قول الفريقين ، وكان يقول : من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع ، وإن القرآن الذي يقرأه المسلمون هو كلام الله على الحقيقة
[ ص: 515 ] وحيث تصرف كلام الله فهو غير مخلوق ، وكان يقول بخلق أفعال العباد وأصواتهم ، وإن الصوت المسموع من القارئ هو صوته وهو مخلوق ، ويقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347466ليس منا من لم يتغن بالقرآن " معناه يحسنه بصوته ، كما قال "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347480زينوا القرآن بأصواتكم " .
ولما كان كل من احتج بكلام
أحمد على شيء فلا بد من أمرين أحدهما : صحة النقل عن ذلك القائل ، والثاني : معرفة كلامه ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : فما احتج به الفريقان من كلام
أحمد ليس بثابت كثير من أخبارهم ، وربما لم يفهموا دقة مذهبه فذكر أن من المنقول عنه ما ليس بثابت ، والثابت عنه قد لا يفهمون مراده لدقته على أفهامهم .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12352إبراهيم الحربي : كنت جالسا عند
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل إذ جاءه رجل فقال : يا
أبا عبد الله إن عندنا قوما يقولون إن ألفاظهم بالقرآن مخلوقة ، قال
أبو عبد الله : يتوجه العبد لله بالقرآن بخمسة أوجه وهو فيها غير مخلوق : حفظ بقلب ، وتلاوة بلسان ، وسمع بأذن ، ونظرة ببصر ، وخط بيد ، فالقلب مخلوق والمحفوظ غير مخلوق ، والتلاوة مخلوقة والمتلو غير مخلوق ، والسمع مخلوق والمسموع غير مخلوق ، والنظر مخلوق والمنظور إليه غير مخلوق ، والكتابة مخلوقة والمكتوب غير مخلوق ، قال
إبراهيم : فمات
أحمد فرأيته في النوم وعليه ثياب خضر وبيض ، وعلى رأسه تاج من الذهب مكلل بالجواهر وفي رجليه نعلان من ذهب ، فقلت له : ما فعل الله بك ؟ قال غفر لي وقربني وأدناني ، فقال : قد غفرت لك ، فقلت له : يا رب بماذا ؟ قال : بقولك كلامي غير مخلوق .
ففرق
أحمد بين فعل العبد وكسبه وما قام به فهو مخلوق ، وبين ما تعلق به كسبه وهو غير ، ومن لم يفرق هذا التفريق لم يستقر له قدم في الحق .
فإن قيل : كيف يكون المسموع غير مخلوق ، وإنما هو صوت العبد ، وأما كلامه سبحانه القائم به فإنا لا نسمعه ، وكيف يكون المنظور إليه غير مخلوق ، وإنما هو المداد والورق ، وكيف يكون المحفوظ غير مخلوق وإنما هو الصدر وما حواه واشتمل عليه ، فهل انتقل القديم وحل في المحدث أو اتحد به وظهر فيه فإن أزلتم هذه الشبهة انجلى الحق وظهر الثواب ، إلا فالغبش موجود والظلمة منعقدة .
قيل : قد زال الغبش بحمد الله وزالت الظلمة ببعض ما تقدم ، ولكن ما حيلة
[ ص: 516 ] الكحال في العميان ؟ فمن يشك في القلب وصفاته ، واللسان وحركاته ، والحق وأصواته والبصر ومرئياته ، والورق ومداده ، والكاتب وآلاته .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي في
بيع المصاحف : لا يبيع كتاب الله وإنما يبيع عمل يده ، وقال
زياد مولى
سعيد : سألت
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس فقال : لا نرى أن تجعله متجرا ولكن ما عملت يداك فلا بأس ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في بيع المصاحف : إنما هم مصورون يبيعون عملهم ، عمل أيديهم ، وذكر ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري قال ، ويذكر عن
علي قال : يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ، ولا من القرآن إلا رسمه .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : قال الله عز وجل :
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا قال ولكنه كلام الله تلفظ به العباد والملائكة ، قال : وقد قال تعالى :
فإنما يسرناه بلسانك ولقد يسرنا القرآن للذكر قال وسمع
عمر معاذا القارئ يرفع صوته بالقراءة وقال :
إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ثم روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12081أبي عثمان النهدي قال : ما سمعت صنجا قط ولا بربطا ولا مزمارا أحسن من صوت
nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى الأشعري إلا فلان إن كان ليصلي بنا فنود أنه قرأ البقرة لحسن صوته .
ثم قال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أصوات الخلق ودراستهم وقراءتهم وتعلمهم وألسنتهم مختلفة بعضها أحسن من بعض ، وأتلى وأزين وأصوت وأرتل وألحن وأعلى وأخف وأغض وأخشع ، قال تعالى :
وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا وأجهر وأخفى وأمد وأخفض وألين من بعض ، ثم ذكر حديث
عائشة المتفق عليه "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347481الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يشتد عليه له أجران " ومراده أن قراءته في الموضعين علمه وسعيه .
وذكر حديث
قتادة : سألت
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك عن
قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347482كان يمد مدا " وفي رواية "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347483يمد صوته مدا " ثم ذكر حديث
قطبة بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347485أنه قرأ في الفجر : والنخل باسقات لها طلع نضيد يمد بها صوته يعني فالمد والصوت له صلى الله عليه وسلم
[ ص: 517 ] قال
أبو عبد الله : فأما المتلو فقوله عز وجل الذي ليس كمثله شيء ، قال تعالى :
هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق وقال
عبد الله بن عمر : يمثل القرآن يوم القيامة فيشفع لصاحبه ، قال
أبو عبد الله : وهو اكتسابه وفعله ، قال تعالى :
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .
ثم قال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : فالمقروء كلام رب العالمين الذي قال
لموسى :
إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني إلا
المعتزلة فإنهم ادعوا أن قول الله مخلوق ، وهذا خلاف ما عليه المسلمون ، ثم قال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : فالقراءة هي التلاوة ، والتلاوة غير المتلو ، قال وقد بينه
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر حديث "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347486قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين : يقول العبد : الحمد لله رب العالمين ، يقول الله حمدني عبدي . . . " الحديث ، فالعبد يقول : الحمد لله رب العالمين حقيقة تاليا لما قاله الله عز وجل فهذا قول الله الذي قاله وتكلم به مبتدئا تاليا وقارئا ، كما هو قول الرسول مبلغا له ومؤديا ، كما قال تعالى :
قل ياأيها الكافرون قل أعوذ برب الفلق قل هو الله أحد فرسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما أمر أن يقوله ، فكان قوله تبليغا محضا لما قاله ، فمن زعم أن التالي والقارئ لم يقل شيئا فهو مكابر جاحد للحس والضرورة ، ومن عزم أن الله لم يقل هذا الكلام الذي نقرأه ونتلوه بأصواتنا فهو معطل جاحد جهمي زاعم أن القرآن قول البشر .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347487اقرءوا إن شئتم " فالقراءة لا تكون إلا من الناس ، وقد تكلم الله بالقرآن من قبل خلقه ، فبين أن الله سبحانه هو المتكلم بالقرآن قبل أن يتكلم به العباد ، بخلاف قول
المعتزلة والجهمية الذين يقولون إن الله خلقه على لسان العبد ، فتكلم العبد بما خلقه الله على لسانه من كلامه في ذلك الوقت ، ولم يتكلم به الله قبل ذلك .
[ ص: 518 ] قال
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : ويقال فلان حسن القراءة ورديء القراءة ، ولا يقال حسن القرآن ، وإنما ينسب إلى العباد القراءة ؛ لأن القرآن كلام الرب ، والقراءة فعل العبد ، قال ولا تخفى معرفة هذا القدر إلا على من أعمى الله قلبه ولم يوفقه ولم يهده سبيل الرشاد .