فصل
منشأ النزاع بين الطوائف أن الرب تعالى هل
يتكلم بمشيئته أم كلامه بغير مشيئته على قولين ، فقالت طائفة : كلامه بغير مشيئته واختياره ، ثم انقسم هؤلاء أربع فرق ، قالت فرقة : هو فيض فاض منه بواسطة العقل الفعال على نفس شريفة فتكلمت به كما يقول
nindex.php?page=showalam&ids=13251ابن سينا وأتباعه وينسبونه إلى
أرسطو .
وفرقة قالت : بل هو معنى قائم بذات الرب تعالى هو به متكلم ، وهو قول
الكلابية ومن تبعهم ، وانقسم هؤلاء فريقين ، فرقة قالت : هو معان متعددة في أنفسها أمر ونهي وخبر واستخبار ، ومعنى جامع لهذا الأربعة ، وفرقة قالت : بل هو معنى واحد بالعين لا ينقسم ولا يتبعض .
وفرقة قالت : كلامه هو هذه الحروف والأصوات ، خلقها خارجة عن ذاته ، فصار بها متكلما ، وهذا قول
المعتزلة وهو في الأصل قول
الجهمية تلقاه عنهم أهل الاعتزال فنسب إليهم .
وفرقة قالت : يتكلم بقدرته ومشيئته كلاما قائما بذاته سبحانه كما يقول به سائر أفعاله لكنه حادث النوع ، وعندهم أنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما كما قاله من
[ ص: 528 ] لم يصفهم من المتكلمين أنه صار فاعلا بعد أن لم يكن ، فقول هؤلاء في الفعل المتصل كقول أولئك في الفعل المنفصل ، وهذا قول
الكرامية .
وفرقة قالت : يتكلم بمشيئته ، وكلامه سبحانه هو الذي يتكلم به الناس كله حقه وباطله وصدقه وكذبه ، كما يقوله طوائف الاتحادية .
وقال أهل الحديث والسنة : إنه لم يزل سبحانه متكلما إذا شاء ويتكلم بمشيئته ولم تتجدد له هذه الصفة ، بل كونه متكلما بمشيئته هو من لوازم ذاته المقدسة ، وهو بائن عن خلقه بذاته وصفاته وكلامه ، وليس متحدا بهم ولا حالا فيهم .
واختلفت الفرق
هل يسمع كلام الله على الحقيقة ؟ فقالت فرقة : لا يسمع كلامه على الحقيقة إنما يسمع حكايته والعبارة عنه ، وهذا قول
الكلابية ومن تبعهم ، وقالت بقية الطوائف بل يسمع كلامه حقيقة ، ثم اختلفوا فقالت فرقة : يسمعه كل أحد من الله ، وهذا قول الاتحادية ، وقالت فرقة : بل لا يسمع إلا من غيره ، وعندهم يسمع كلام الله منه ، فهذا قول
الجهمية والمعتزلة .
وقال أهل السنة والحديث
يسمع كلامه سبحانه منه تارة بلا واسطة كما سمعه
موسى وجبرائيل وغيره ، وكما يكلم عباده يوم القيامة ، ويكلم أهل الجنة ، ويكلم الأنبياء في الموقف ، ويسمع من المبلغ عنه كما سمع الأنبياء الوحي من
جبرائيل تبليغا عنه ، وكما سمع الصحابة القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله ، فسمعوا كلام الله بواسطة المبلغ ، وكذلك نسمع نحن بواسطة التالي .
فإذا قيل : المسموع مخلوق أو غير مخلوق ؟ قيل إن أردت المسموع عن الله فهو كلامه غير مخلوق ، وإن أردت المسموع من المبلغ ففيه تفصيل ، فإن سألت عن الصوت الذي روي به كلام الله فهو مخلوق ، وإن سألت عن الكلام المؤدى بالصوت فهو غير مخلوق ، والذين قالوا : إن الله يتكلم بصوت أربع فرق :
فرقة قالت : يتكلم بصوت مخلوق منفصل عنه ، وهم
المعتزلة .
وفرقة قالت : يتكلم بصوت قديم لم يزل ولا يزال ، وهم
السالمية والاقترانية .
وفرقة قالت : يتكلم بصوت قديم حادث في ذاته بعد أن لم يكن ، وهم
الكرامية .
[ ص: 529 ] وقال أهل السنة والحديث :
لم يزل الله متكلما بصوته إذا شاء .
والذين قالوا : لا يتكلم بصوت فرقتان : أصحاب الفيض ، والقائلون إن الكلام معنى قائم بالنفس .
واختلفت الطوائف في مسمى الكلام ، فقالت طائفة : هو حقيقة في المعنى ، مجاز في اللفظ ، وهذا قول
الأشعري ، وقالت طائفة : هو حقيقة في الألفاظ ، مجاز في المعنى ، وهذا قول
المعتزلة ، وقالت طائفة : بل هو حقيقة في اللفظ والمعنى ، فإطلاقه على اللفظ وحده حقيقة ، وعلى المعنى وحده حقيقة ، وهذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=12441أبي المعالي الجويني وغيره .
وقالت طائفة : بل الكلام حقيقة في الأمرين على سبيل الجمع ، فكل منهما جزء مسماه فدلالته عليهما بطريق المطابقة ، ودلالته على كل واحد منهما بمفرده بطريق التضمن ، وهذا قول أكثر العقلاء ، فإنما استحق الاسم للفظه ومعناه ، كما أن الإنسان إنما استحق اسم الإنسان لجسمه ونفسه ، فمجموعهما هو الإنسان .
وقالت طائفة : بل هو حقيقة في النفس ، مجاز في البدن ، وعكس ذلك طائفة ، وقالت طائفة : يطلق على كل منهما إنه إنسان بطريق الاشتراك .
والتحقيق أنه اسم لهذه الذات المركبة من النفس والبدن ، فهذا اختلافهم في الناطق ونطقه .