فصل
قبول التأويل له أسباب : منها : أن يأتي به صاحبه مموها بزخرف من القول ، مكسوا حلة الفصاحة والعبارة الرشيقة فتسرع العقول الضعيفة إلى قبوله واستحسانه ، قال الله تعالى : (
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ) فذكر سبحانه أنهم يستعينون على مخالفة أمر الأنبياء بما يزخرفه بعضهم لبعض من القول ، ويفتريه الأغمار وضعفاء العقول ، فذكر السبب الفاعل وهو ما يغر السامع من زخرف القول ، فلما أصغت إليه ورضيته اقترفت ما تدعو إليه من الباطل قولا وعملا .
فتأمل هذه الآيات وما تحتها من هذا المعنى العظيم القدر الذي فيه بيان أصول الباطل والتنبيه على مواقع الحذر منها ، وإذا تأملت مقالات أهل الباطل رأيتهم قد كسوها من العبارات المستحسنة ما يسرع إلى قبوله كل من ليس له بصيرة نافذة ، فيسمون أم الخبائث أم الأفراح ، ويسمون اللقمة الملعونة التي هي الحشيشة : لقيمة الذكر والفكر التي تثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن ، ويسمون مجالس الفجور : المجالس الطبية ، حتى إن بعضهم لما عدل عن شيء من ذلك قالوا : ترك المعاصي والتخوف منها إساءة ظن برحمة الله وجراءة على سعة عفوه ومغفرته ، فانظر ما تفعل هذه الكلمة في قلب ممتلئ بالشهوات ، ضعيف العلم والبصيرة .
السبب الثاني : أن يخرج المعنى الذي يريد إبطاله في صورة مستهجنة تنفر عنها القلوب ، وتنبو عنها الأسماع ، فيسمى عدم الانبساط إلى الفساق : سوء خلق ، والأمر
[ ص: 79 ] بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة وشرا وفضولا ، ويسمون إثبات الصفات لكمال الله تعالى تجسيما وتشبيها وتمثيلا ، ويسمون العرش حيزا وجهة ، ويسمون الصفات أعراضا والأفعال حوادث ، والوجه واليدين أبعاضا ، والحكم والغايات التي يفعل لأجلها أعراضا ، فلما وضعوا لهذه المعاني الصحيحة تلك الألفاظ المستكرهة تم لهم تعطيلها ونفيها على ما أرادوا .
فقالوا لضعفاء العقول : اعلموا أن ربكم منزه عن الأعراض والأبعاض والجهات والتركيب والتجسيم والتشبيه ، ولم يشك أحد لله في قلبه وقار وعظمة في تنزيه الرب تعالى عن ذلك ، وقد اصطلحوا على تسمية سمعه وبصره وعلمه وقدرته وإرادته وحياته أعراضا ، وعلى تسمية وجهه الكريم ويديه المبسوطتين أبعاضا ، وعلى تسمية استوائه على عرشه وعلوه على خلقه تحيزا ، وعلى تسمية نزوله إلى سماء الدنيا وتكليمه بقدرته ومشيئته إذا شاء ، وغضبه بعد رضاه ، ورضاه بعد غضبه : حوادث ، وعلى تسمية الغاية التي يتكلم ويفعل لأجلها : غرضا ، واستقر ذلك في قلوب المبلغين عنهم ، فلما صرحوا لهم بنفي ذلك بقي السامع متحيرا أعظم حيرة بين نفي هذه الحقائق التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له جميع رسله وسلف الأمة بعدهم ، وبين إثباتها ، وقد قام معه شاهد نفيها بما تلقاه عنهم .
فأهل السنة هم الذين كشفوا زيف هذه الألفاظ وبينوا زخرفها وزغلها ، وأنها ألفاظ مموهة بمنزلة طعام طيب الرائحة في إناء حسن اللون والشكل ، ولكن الطعام مسموم ، فقالوا ما قاله إمام أهل السنة
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل رحمه الله : " لا نزيل عن الله صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين " .
ولما أراد المتأولون المعطلون تمام هذا الغرض اخترعوا لأهل السنة ألقابا قبيحة ، وسموهم حشوية ، ومحيزة ، ومجسمة ، ومشبهة ، ونحو ذلك ، فتولد من تسميتهم لصفات الرب ; وأفعاله ، ووجهه ، ويديه بتلك الأسماء ، وتلقيب من أثبتها له بهذه الألقاب ، ولعن أهل الإثبات من أهل السنة ، وتبديعهم ، وتضليلهم ، وتكفيرهم ، وعقولهم ، ولقوا منهم ما لقي الأنبياء وأتباعهم ، وهذا الأمر لا يزال حتى يرث الله الأرض ومن عليها .
السبب الثالث : أن يعزو المتأول تأويله إلى جليل القدر نبيل الذكر من العقلاء أو من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أو من حصل له من الأمة ثناء جميل ولسان صدق ; ليحليه
[ ص: 80 ] بذلك في قلوب الجهال ، فإنه من شأن الناس تعظيم كلام من يعظم قدره في نفوسهم ، حتى إنهم ليقدمون كلامه على كلام الله ورسوله ، ويقولون : هو أعلم بالله منا ، وبهذا الطريق توصل
الرافضة والباطنية والإسماعيلية والنصيرية إلى ترويج باطلهم وتأويلاتهم حتى أضافوها إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما علموا أن المسلمين متفقون على محبتهم وتعظيمهم ، فانتموا إليهم وأظهروا من محبتهم وإجلالهم وذكر مناقبهم ما خيل إلى السامع أنهم أولياؤهم ، ثم نفقوا باطلهم بنسبته إليهم ، فلا إله إلا الله ، كم من زندقة وإلحاد وبدعة قد نفقت في الوجود بسبب ذلك ، وهم برآء منها .
وإذا تأملت هذا السبب رأيته هو الغالب على أكثر النفوس ، فليس معهم سوى إحسان الظن بالقائل بلا برهان من الله قادهم إلى ذلك ، وهذا ميراث بالتعصيب من الذين عارضوا دين الرسل بما كان عليه الآباء والأسلاف ، وهذا شأن كل مقلد لمن يعظمه فيما خالف فيه الحق إلى يوم القيامة .