الحادي عشر : أن الله تعالى قد تمم الدين بنبيه صلى الله عليه وسلم وكمله به ، ولم يحوجه هو ولا أمته إلى عقل ولا نقل سواه ولا رأي ولا منام ولا كشف . قال الله تعالى : (
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) وأنكر على من لم يكتف بالوحي فقال : (
أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ) ذكر هذا جوابا لطلبهم آية تدل على صدقه ، فأخبر أنه يكفيهم من كل آية ، فلو كان ما تضمنه من الإخبار عنه وعن صفاته وأفعاله واليوم الآخر يناقض العقل لم يكن دليلا على صدقه فضلا عن أن يكون كافيا ، وسيأتي في الوجه الذي بعد هذا بيان أن
تقديم العقل على النقل يبطل كون القرآن آية وبرهانا على صحة النبوة .
والمقصود أن الله سبحانه تمم الدين وأكمله بنبيه صلى الله عليه وسلم وما بعثه به فلم يحوج أمته إلى سواه ، فلو عارضه العقل وكان أولى بالتقديم منه لم يكن كافيا للأمة ولا تاما في نفسه ، وفي مراسيل
أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
رأى بيد عمر ورقة فيها شيء من [ ص: 116 ] التوراة فقال : " كفى بقوم ضلالة أن تبعوا كتابا غير كتابهم ، أنزل على نبي غير نبيهم " فأنزل الله تعالى : (
أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ) وقال تعالى : (
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) .
فأقسم سبحانه أنا لا نؤمن حتى نحكم رسوله في جميع ما شجر بيننا وتتسع صدورنا لحكمه ، فلا يبقى فيها حرج ، ونسلم لحكمه تسليما فلا نعارضه بعقل ولا رأي ، فقد أقسم الله سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن هؤلاء
الذين يقدمون العقل على ما جاء به الرسول ، وقد شهدوا هم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بمعناه وإن آمنوا بلفظه .
وقال تعالى : (
وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) وهذا نص صريح في أن حكم جميع ما تنازعنا فيه مردود إلى الله وحده ، فهو الحاكم فيه على لسان رسوله ، فلو قدم حكم العقل على حكمه لم يكن هو الحاكم بكتابه ، وقال تعالى : (
اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون ) فأمر باتباع الوحي المنزل وحده ونهى عما خالفه ، وأخبر أن كتابه بينة وهدى وشفاء ورحمة ونور مفصلا وبرهانا وحجة وبيانا ، فلو كان في العقل ما يعارضه ويجب تقديمه على القرآن لم يكن فيه شيء من ذلك ، بل كانت هذه الصفات للعقل دونه .