الخامس عشر : أن الرجل إما أن يكون مقرا بالرسل أو لا ، فإن كان منكرا ، فالكلام معه في إثبات النبوة ، فلا وجه للكلام معه في
تعارض العقل والنقل ، فإن تعارضهما فرع الإقرار بصحة كل واحد منهما لو تجرد عن المعارض ، وإن كان مقرا بالرسالة فالكلام معه في مقامات : أحدها : صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به ، فإن أنكر ذلك أنكر الرسالة والنبوة ، وإن زعم أنه مقر بها وأن الرسل خاطبوا الجمهور بخلاف الحق تقريبا لأفهامهم ، ومضمون هذا أنهم كذبوا للمصلحة وهذه حقيقة قول هؤلاء ، وهو عندهم كذب حسن ، وإن أقر بأنه صادق فيما أخبر به ، فالكلام معه في المقام الثاني : وهو أنه هل يقر بأنه أخبر به أو لا يقر به ؟ فإن لم يقر به جهلا عرف ذلك بما يعرف به أنه دعا إلى الله وحارب أعداءه ، فإن أصر على إنكار ذلك فقد أنكر الأمور الضرورية كوجود
بغداد ومكة .
وإن أقر أنه أخبر بذلك فالكلام معه في المقام الثالث : وهو أنه هل أراد ما دل عليه كلامه ولفظه أو أراد خلافه ؟ فإن ادعى أنه أراده فالكلام معه في المقام الرابع : وهو أن هذا المراد هل هو حقيقة في نفسه أو باطل ; فإن كان حقا لا يتصور أن يعارضه دليل عقلي ألبتة ، وإن كان باطلا انتقلنا معه إلى مقام خامس ، وهو أنه هل يعلم الحق في نفس الأمر أو لا يعلمه ؟ فإن قال : لم يكن عالما به ، فقد نسبه إلى جهل ، وإن قال : كان عالما به ، انتقلنا معه إلى مقام سادس وهو أنه هل يمكنه التعبير والإفصاح عن الحق كما فعلتم أنتم بزعمكم ، أم لم يكن ذلك ممكنا له ؟ فإن لم يكن ذلك ممكنا له كان
[ ص: 119 ] تعجيزا له عن أمر قدر عليه أفراخ الفلاسفة وتلامذة
اليهود ، وأوقاح
المعتزلة والجهمية ، وإن كان ممكنا له ولم يفعل ذلك غشا لأمته ، وتوريطا لهم في الجهل بالله وأسمائه وصفاته ، واعتقاد ما لا يليق بعظمته فيه ; وأن
الجهمية وأفراخ
الصابئة واليونان نزهوا الله عما لا يليق به ، وتكلموا بالحق الذي كتمه الرسول ، وهذا أمر لا محيد لكم عنه ، فاختاروا أي قسم شئتم من هذه الأقسام ، والظاهر أنكم متنازعون في الاختيار ، وأن عقلاءكم يختارون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف الحق في خلاف ما أخبر به ، وأنه كان قادرا على التعبير عنه ولكن ترك ذلك خشية التنفير ، فخاطب الناس خطابا جمهوريا بما يناسب عقولهم بما الأمر بخلافه ، وهذا أحسن أقوالكم إذا آمنتم بالرسول وأقررتم بما جاء به .