فصل
ومن ذلك لفظ
العدل ، جعلته
القدرية اسما لإنكار قدرة الرب على أفعال العباد وخلقه لها ومشيئته ، فجعلوا إخراجها عن قدرته ومشيئته هو العدل ، وجعل سلفهم إخراجها عن تقدم علمه وكتابته من العدل ، وسموا أنفسهم
بالعدلية ، وعمدوا إلى إثبات عموم قدرته على كل شيء من الأعيان والأفعال وخلقه لكل شيء وشمول مشيئته ، فسموه جبرا ، ثم نفوا هذا المعنى الصحيح وعبروا عنه بهذا الاسم ، ثم سموا أنفسهم أهل العدل وسموا من أثبت صفات الرب وأثبت قدره وقضاءه أهل التشبيه والحيز .
وكذلك قول
الرافضة سموا موالاة الصحابة نصبا ، ومعاداتهم موالاة
لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك
المرجئة سموا من قال في الإيمان بقول الصحابة والتابعين واستثنى فيه فقال : أنا مؤمن إن شاء الله شاكا .
[ ص: 144 ] وهذا شأن كل مبطل ومبتدع ، يلقب الحق وأهله بالألقاب الشنيعة المنفردة ، فإذا أطلقوا لفظ الجسم صوروا في ذهن السامع خشبة من الخشب الكثيف ، أو بدنا له حامل يحمله ، وإذا قالوا : مركب صوروا في ذهنه أجزاء متفرقة فركبها ، وهذا حقيقة المركب لغة وعرفا ، وإذا قالوا : يلزم أن تحله الحوادث صوروا في ذهنه ذاتا تنزل به الأعراض النازلة بالمخلوقين كما مثل النبي صلى الله عليه وسلم لابن
آدم أمله وأجله والأعراض جانبه إن أخطأه هذا أصابه هذا ، وإذا قالوا يقولون بالحيز والجهة صوروا في الذهن موجودا بالأحياز ، وإذا قالوا لزم الحيز صوروا في الذهن قادرا ظالما يجبر الخلق على ما لا يريدون ويعاقبهم على ما لا يفعلون ، وإذا قالوا : حشوية ، صوروا في ذهن السامع أنهم حشوا في الدين ما ليس منه ، فتنفر القلوب من هذه الألقاب .
ولو ذكروا حقيقة قولهم لما قبلت القلوب السليمة والفطر المستقيمة سواه ، فكيف يترك الحق لأسماء سموها هم وأسلافهم ما أنزل الله بها من سلطان ، وألقاب وضعوها من تلقاء أنفسهم لم يأت بها سنة ولا قرآن ، وشبهات قذفت بها القلوب ما استنارت بنور الوحي ولا خالطها بشاشة الإيمان ، وخيالات هي بتخيلات الممردين وأصحاب الهوس أشبه منها بقضايا العقل والبرهان ، ووهميات نسبتها إلى العقل الصحيح كنسبة السراب في الأبصار في القيعان ، وألفاظ مجملة ومعان مشتبهة قد لبس فيها الحق بالباطل فصار ذا خفاء وكتمان .
فدعونا من هذه الدعاوى الباطلة التي لا تفيد إلا إتعاب الإنسان ، وكثرة الهذيان وحاكمنا إلى الوحي والقرآن ، لا إلى منطق يونان ، ولا إلى قول فلان ورأي فلان ، كتاب الله ليس فوق بيانه مرتبة في البيان ، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مطابقة له أعظم من مطابقة البيان للسان ، وهذه أقوال أعقل الأمم بعده والتابعين لهم بإحسان ، لا يختلف منهم في هذا الباب اثنان ، ولا يوجد عنهم فيه قولان متنافيان ، بل قد تتابعوا كلهم على إثبات الصفات وعلو الله على خلقه واستوائه على عرشه ، وإثبات تكلمه
[ ص: 145 ] وتكليمه وسائر ما وصف به نفسه ، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، كتتابع الأسنان ، وقالوا للأمة : هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم وإلى من بعدكم إلى آخر الزمان ، وهذا هو الذي نادى به المنادي وأذن على رءوس الملأ في السر والإعلان ، فحي على الصلاة وراء هذا الإمام يا أهل الإيمان ، وحي على الفلاح بمتابعته يا أهل القرآن ، والصلاة خير من النوم في ظلمة ليل الشكوك والإفك والكفران ، فلا تصح القدوة بمن أقر على نفسه وصدقه المؤمنون بأنه تائه في بيداء الآراء والمذاهب حيران ، وأنه لم يصل إلى اليقين بشيء منها ، لا هو ولا من قبله على تطاول الزمان ، وإن غاية ما وصلوا إليه الشك والتشكيك ولقلقة اللسان .
فالحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وخصهم بكمال العقول وصحة الفطرة ونور البرهان ، وجعلهم هداة مهتدين ، مستبصرين مبصرين ، أئمة للمتقين يهدون بأمره ، ويبصرون بنوره ، ويدعون إلى داره ، ويجادلون كل مفتتن فتان ، فحي على خير العمل بمتابعة المبعوث بالفرقان ، وتحكيمه وتلقي حكمه بالتسليم والقبول والإذعان ، ومقابلة ما خالف حكمه بالإنكار والرد والهوان ، ومطاعنة المعارضين له بقولهم بالسيف والسنان ، وإلا بالعلم واللسان ، فالعقول السليمة والفطر المستقيمة لنصوص الوحي يسجدان ، ويصدقان بما شهدت به ولا يكذبان ، ويقران أن لها عليهما أعظم سلطان ، وأنهما إن خرجا عنها غلبا ولا ينتصران ، والله المستعان ، وعليه التكلان .
السابع والعشرون : أن
المعارضة بين العقل ونصوص الوحي لا تتأتى على قواعد المسلمين المؤمنين بالنبوة حقا ، ولا على أصول أحد من أهل الملل المصدقين بحقيقة النبوة ، ليست هذه المعارضة من الإيمان بالنبوة في شيء ، وإنما تتأتى هذه المعارضة ممن يقر بالنبوة على قواعد الفلسفة ويجريها على أوضاعهم ، وأن الإيمان بالنبوة عندهم ، والاعتراف بموجود حليم له طالع مخصوص يقتضي طالعه أن يكون متبوعا ، فإذا أخبرهم بما لا تدركه عقولهم عارضوا خبره بعقولهم وقدموها على خبره .
فهؤلاء الذين عارضوا بين العقل ونصوص الأنبياء ، فعارضوا الأنبياء في باب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر في هذه الأصول الخمسة بعقولهم ، فلم يصدقوا بشيء منها على طريقة الرسل ، ثم سرت معارضتهم في المنتسبين إلى الرسل ، فتقاسموها تقاسم الوارث لتركة مورثهم ، فكل طائفة كانت نصوص الوحي
[ ص: 146 ] على خلاف مذهبهم لجئوا إلى هذه المعارضة ، ومعلوم أن هذا يناقض الإيمان بالنبوة ، وإن تناقض القائل به فغلبته أن يثبت كون النبي رسولا في العمليات ولا في العلميات ، أو في بعض العلميات التي أخبر بها دون البعض ، وهذا أسوأ حالا ممن جعله رسولا إلى بعض الناس دون بعض ، فإن القائل بهذا يجعله رسولا في العلميات والعمليات ، ولا يعارض بين خبره وبين العقل ، وإن تناقض جحده عموم رسالته بالنسبة إلى كل مكلف ، فهذا جحد عموم رسالته إلى المدعوين ، وذاك جحد عموم رسالته في المدعو إليه المخبر به ، ولم يؤمن في الحقيقة برسالته ، لا هذا ولا هذا ، فإنه يقال لهذا : إن كان رسول الله إلى هؤلاء حقا فهو رسوله إلى الآخرين قطعا ، لأنه أخبر بذلك ، ومن ضرورة تصديقه الإيمان بعموم رسالته ، ويقال للآخر : إن كان رسول الله في العمليات وأنها حق من عند الله ، فهو رسوله في العلميات ، فإنه أخبر عنه بهذا وهذا .