إن أصولهم التي عارضوا بها الوحي تنفي وجود الصانع فضلا عن كونه صانعا للعالم ، بل تجعله ممتنع الوجود فضلا عن كونه واجبا ، لأن الصفات التي وصفوه بها صفات معدوم ممتنعة في العقل والخارج ، فالعقل لا يتصوره إلا على سبيل الفرض الممتنع كما تفرض المستحيلات ، ولا يمكن في الخارج وجوده ، فإن ذاتا هي وجود مطلق لا ماهية لها سوى الوجود المطلق المجرد عن كل ماهية ، ولا صفة لها البتة ، ولا فيها معنيان متغايران في المفهوم ، ولا هي هذا العالم ، ولا صفة من صفاته ، ولا داخلة فيه ، ولا خارجة عنه ، ولا متصلة به ، ولا منفصلة عنه ، ولا محايثة له ، ولا فوقه ولا تحته ، ولا عن يمينه ولا عن يساره ، ولا ترى ، ولا يمكن أن ترى ، ولا تدرك شيئا ، ولا تدرك هي بشيء من الحواس ، ولا متحركة ولا ساكنة ، ولا توصف بغير السلوب والإضافات العدمية ، ولا تنعت بشيء من الأمور الثبوتية ، هي بامتناع الوجود أحق منها بإمكان الوجود ، فضلا عن وجوبه ، وتكلف العقل الاعتراف بوجود هذه الذات ووجوبها كتكليفه الجمع بين النقيضين .
ومعلوم أن مثل هذه الذات لا تصلح لفعل ولا ربوبية ولا إلهية ، فأي ذات فرضت في الوجود فهي أكمل منها ، فالذي جعلوه واجب الوجود هو أعظم استحالة من كل ما يقدر مستحيلا ، فلا يكثر بعد هذا عليهم إنكارهم لصفاته كعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره ، ولا إنكارهم لكلامه وتكليمه ، فضلا عن استوائه على عرشه ونزوله إلى السماء الدنيا ، ومجيئه ، وإتيانه ، وفرحه ، وحبه ، وغضبه ، ورضاه ، فمن هدم قواعد البيت من أصلها كان عليهم هدم السقف والجدران أهون .
ولهذا كان حقيقة قول هؤلاء القول بالدهر وإنكار الخالق بالكلية وقولهم : (
ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ) وإنما صانعوا المسلمين ألفاظا لا حقيقة لها ، واشتق إخوانهم
الجهمية النفي والتعطيل من أصولهم ، فسدوا على أنفسهم طريق العلم بإثبات الخالق وتوحيده بمشاركتهم لهم في الأصل المذكور ، وإن باينوهم في بعض لوازمهم ، كإثباتهم كون الرب تعالى قادرا مريدا فاعلا بالاختيار وإثباتهم معاد الأبدان ، والنبوة ولكن لم يثبتوا ذلك على الوجه الذي جاءت به الرسل ، ولا نفوه نفي إخوانهم الملاحدة ، بل اشتقوا مذهبا بين المذهبين ، وسلكوا طريقا بين الطريقين ، لا للملاحدة فيه وافقوا ، ولا للرسل اتبعوا .
[ ص: 152 ] ولهذا عظمت بهم البلية على الإسلام وأهله بانتسابهم إليه ، وظهورهم في مظهر ينصرون به الإسلام ، فلا للإسلام نصروا ، ولا لأعدائه كسروا ، فمرة يقولون : هي دلالة لفظية معزولة عن إفادة العلم واليقين ، ومرة يقولون : هي مجازات واستعارات لا حقيقة لها عند العارفين ، ومرة يقولون : لا سبيل إلى تحكيمها ، ولا التفات إليها ، وقد عارضها العقل وقواطع البراهين ، ومرة يقولون : أخبار آحاد فلا يحتج بها في المسائل القطعية التي يطلب منها اليقين ، فأرضيتم بذلك إخوانكم من الملاحدة أعداء الدين ، فهذه ثمرة عقولكم وحاصل معقولكم .
فعلى عقولكم العفاء فإنكم عاديتم المعقول والمنقولا وطلبتم أمرا محالا ، وهو إد
راك الهدى لا تتبعون رسولا وزعمتم أن العقول كفيلة
بالحق ، أين العقل كان كفيلا وهو الذي يقضي فينقض حكمه
عقل ، ترون كليهما معلولا وتراه يجزم بالقضاء وبعد ذا
يلقى لديه باطلا معقولا لا يستقل العقل دون هداية
بالوحي تأصيلا ولا تفصيلا كالطرف دون النور ليس بمدرك
حتى تراه بكرة وأصيلا فإذا الظلام تلاطمت أمواجه
وطمعت بالإبصار كنت محيلا وإذا النبوة لم ينلك ضياؤها
فالعقل لا يهديك قط سبيلا نور النبوة مثل نور الشمس لل
عين البصيرة فاتخذه دليلا طرق الهدى مسدودة إلا على
من أم هذا الوحي والتنزيلا فإذا عدلت عن الطريق تعمدا
فاعلم بأنك ما أردت وصولا يا طالبا درك الهدى بالعقل دو
ن النقل ، لن تلقى لذاك دليلا كم رام قبلك ذاك من متلدد
حيران عاش مدى الزمان جهولا مازالت الشبهات تغزو قلبه
حتى تشحط بينهن قتيلا فتراه بالكلي والجزئي والذ
ذاتي طول زمانه مشغولا فإذا أتاه الوحي لم يأبه له
ويقوم بين يدي عداه مثيلا ويقول تلك أدلة لفظية
معزولة عن أن تكون دليلا وإذا تمر عليه قال لها اذهبي
نحو المجسم أو خذي التأويلا [ ص: 153 ] وإذا أبت إلا النزول عليه كا
ن لها القرى التحريف والتبديلا فيحل بالأعداء ما تلقاه من
كيد يكون لحقها تعطيلا واضرب لهم مثلا بعميان خلوا
في ظلمة لا يهتدون سبيلا فتصادموا بأكفهم وعصيهم
ضربا يدير رحى القتال طويلا حتى إذا ملوا القتال رأيتهم
مشجوج أو مبعوج أو مقتولا وتسامع العميان حتى أقبلوا
للصلح فازداد الصياح عويلا
يوضحه : الوجه الثلاثون ، وهو أن الطرق التي سلكها هؤلاء المعارضون بين الوحي والعقل في
إثبات الصانع هي بعينها تنفي وجوده لزوما ، فإن المعارضين صنفان : الفلاسفة
والجهمية ، أما
الفلاسفة فأثبتوا الصانع بطريق التركيب ، وهو أن الأجسام مركبة ، والمركب يفتقر إلى أجزائه ، وكل مفتقر ممكن ، والممكن لا بد له من وجود واجب ، ويستحيل الكثرة في ذات الواجب بوجه من الوجوه ، إذ يلزم تركيبه وافتقاره ، وذلك ينافي وجوبه ، وهذا هو غاية توحيدهم ، وبه أثبتوا الخالق على زعمهم .
ومعلوم أن هذا من أعظم الأدلة على نفي الخالق ، فإنه ينفي قدرته ومشيئته وعلمه وحياته ، إذ لو ثبت له هذه الصفات بزعمهم لكان مركبا ، والمركب مفتقر إلى غيره ، فلا يكون واجبا بنفسه ، وفي هذه الشبهة من التلبيس والتدليس والألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة ما يطول وصفه ، وقد انتدب لإفسادها جنود الإسلام على اختلاف مذاهبهم ، فإن المركب لفظ مجمل يراد به ما ركبه غيره ، وما كان متفرقا فاجتمعت أجزاؤه ، وما يمكن تفريق بعضه عن بعض ، والله تعالى منزه عن هذه التراكيب ، ويراد به في اصطلاح هؤلاء ما له ماهية خاصة يتميز بها عن سائر الماهيات ، وما له ذات وصفات بحيث يتميز بعض صفاته عن بعض ، وهذا ثابت للرب تعالى ، وإنما سماه هؤلاء تركيبا على ما تقدم ، وكذلك لفظ الافتقار لفظ مجمل يراد به فقر الماهية إلى موجود غيرها يتحقق وجودها به ، وإنه سبحانه غني عن هذا الافتقار ، ويراد به أن الماهية مفتقرة في ذاتها ولا قوام لذاتها إلا بذاتها ، وأن الصفة لا تقوم وإنما تقوم
[ ص: 154 ] بالموصوف ، وهذا المعنى حق وإن سماه هؤلاء الملبسون فقرا ، وكذلك لفظ الغير فيه إجمال ، ويراد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر ، وهذا المعنى حق في ذاته سبحانه وصفاته وإن سماه هؤلاء أغيارا ، فإن المخلوق يعلم من الخالق صفة دون صفة ، وقد قال أعلم الخلق به : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347214لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " وهذا لكثرة أسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله ، وقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347215أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك " والمستعاذ به غير المستعاذ منه ، والمقصود أن تسمية هذا تركيبا وافتقارا وغيرا وضع وضعه هؤلاء ، وليس الشأن في الألفاظ إنما الشأن في المعاني .
وقولهم : إنه مفتقر إلى جزئه تلبيس ، فإن القديم الموصوف بالصفات اللازمة له يمتنع أن تفارقه صفاته ، وليست له حقيقة غير الذات الموصوفة حتى يقال : إن تلك الحقيقة مفتقرة إلى غيرها ، وإن سميت تلك الصفة غيرا ، فالذات والصفات متلازمان لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر ، وهذا الالتزام يقتضي حاجة الذات والصفات إلى موجود أوجدها وفاعل فعلها ، والواجب بنفسه يمتنع أن يكون مفتقرا إلى ما هو خارج عن نفسه ، فأما أن لا يكون له صفة ولا ذات ولا يتميز فيه أمر عن أمر فلا يلزم من وجوبه وكونه غنيا بنفسه عن كل ما سواه ، فقول الملبس : إنه مفتقر إلى ذلك كقوله : لو كان له ماهية لكان مفتقرا إلى ماهيته ، والله تعالى اسم للذات المتصفة بكمال العلم والقدرة والحياة والمشيئة وسائر صفات الكمال ، ليس اسما لذات مجردة عن الأوصاف والنعوت ، فكل ذات أكمل من هذا الذات ، تعالى الله عن قول الملحدين في أسمائه وصفاته علوا كبيرا .
والمقصود أن الطريق التي سلكها هؤلاء في إثبات الصانع هي أعظم الطرق في نفيه وإنكار وجوده ، ولذلك كان سالكوها لا يؤمنون بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا باليوم الآخر ، وإن صانع من صانع منهم أهل الملل بألفاظ لا حاصل لها .