فصل
وأما المتكلمون فلما رأوا بطلان هذه الطريق عدلوا عنها إلى طريق الحركة والسكون والاجتماع والافتراق وتماثل الأجسام وتركبها من الجواهر الفردة ، وأنها قابلة
[ ص: 155 ] للحوادث ، وما يقبل الحوادث فهو حادث ، فالأجسام كلها حادثة ، فإذن يجب أن يكون لها محدث ليس بجسم ، فبنوا العلم بإثبات الصانع على حدوث الأجسام ، واستدلوا على حدوثها بأنها مستلزمة للحركة والسكون والاجتماع والافتراق ، ثم قالوا : إن تلك أعراض ، والأعراض حادثة ، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، واحتاجوا في هذه الطريق إلى إثبات الأعراض أولا ، ثم إثبات لزومها للجسم ثانيا ، ثم إبطال حوادث لا أول لها ثالثا ، ثم إلزام بطلان حوادث لا نهاية لها رابعا عند فريق منهم ، وإلزام الفرق عند فريق آخر ، ثم إثبات الجوهر الفرد خامسا ، ثم إلزام كون العرض لا يبقى زمانين سادسا ، فيلزم حدوثه والجسم لا يخلو منه وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث ، ثم إثبات الخالق سبحانه مبني على هذه الأمور السبعة فلزمهم من سلوك هذه الطريق إنكار كون الرب فاعلا في الحقيقة ، وإن سموه فاعلا بألسنتهم ، فإنه لا يقوم به عندهم فعل ، وفاعل بلا فعل كقائم بلا قيام ، وضارب بلا ضرب ، وعالم بلا علم .
وضم
الجهمية إلى ذلك أنه لو قام به صفة لكان جسما ، ولو كان جسما لكان حادثا ، فيلزم من إثبات صفاته إنكار ذاته ، فعطلوا صفاته وأفعاله بالطريق التي أثبتوا بها وجوده ، فكانت أبلغ الطرق في تعطيل صفاته وأفعاله ، وعن هذا الطريق أنكروا علوه على عرشه وتكلمه بالقرآن وتكليمه
لموسى ، ورؤيته بالأبصار في الآخرة ، ونزوله إلى سماء الدنيا كل ليلة ، ومجيئه لفصل القضاء بين الخلائق ، وغضبه ذلك اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب مثله بعده ، وجميع ما وصف به نفسه من وصف ذاتي أو معنوي أو فعلي ، فأنكروا وجهه الأعلى ، وأنكروا أن له يدين ، وأن له سمعا وبصرا وحياة ، وأنه يفعل ما يشاء حقيقة ، وإن سمي فاعلا فلم يستحق ذلك لفعل قام به ، بل فعله هو عين مفعوله .
وكذلك
الطريق التي سلكوها في إثبات النبوة لم يثبتوا أنها نبوة في الحقيقة ، فإنهم بنوها على مجرد طريق العادة وهو مشترك بين النبي وغيره ، وحاروا في الفرق فلم يأتوا فيه بما تثلج له الصدور ، مع أن النبوة التي أثبتوها لا ترجع إلى وصف وجودي بل هي تعلق الخطاب الأزلي بالنبي ، والتعلق عندهم أمر عدمي ، فعادت النبوة عندهم إلى أمر عدمي ، وقد صرحوا بأنها لا ترجع إلى صفة ثبوتية قائمة بالنبي صلى الله عليه وسلم .
وأيضا فحقيقة النبوة والرسالة إنباء الله لرسوله وأمره تبليغ كلامه إلى عباده ، وعندهم أن الله يتكلم ولا يقوم به كلام .
[ ص: 156 ] وأما اليوم الآخر فإن جمهورهم بنوه على إثبات الجوهر الفرد ، قالوا : لا ينافي التصديق بالمعاد إلا بإثباته ، وهو في الحقيقة باطل لا أصل له ، والمثبتون له يعترفون أن القول به في غاية الإشكال وأدلته متعارضة ، وكثير منهم له قولان في إثباته ونفيه ، وسلكوا في تقرير المعاد ما خالفوا فيه جمهور العقلاء ، ولم يوافقوا ما جاءت به الأنبياء ، فقالوا : لو أن الله تعالى يعدم أجزاء العالم كلها حتى تصير عدما محضا ، ثم يعيد المعدوم ويقلبه موجودا حتى إنه يعيد زمنه بعينه وينشئه ، لا من مادة ، كما قالوا في المبدأ ، فجنوا على العقل والشرع وأغروا أعداء الشرع به ، وحالوا بينهم وبين تصديق الرسل .
وأما المبدأ فإنهم قالوا : إن الله تعالى كان معطلا في الأول ، والفعل غير ممكن ، مع قولهم : كان قادرا عليه ، ثم صار فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا ، من غير تجدد أمر أصلا ، وانقلب الفعل من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي ، وذات الفاعل قبل الفعل ومع الفعل وبعد الفعل واحدة .
فهذا غاية عقولهم التي عارضوا بها الوحي ، وهذه طرقهم العقلية التي لم يثبتوا بها ربا ولا رسالة ، ولا مبدأ ولا معادا .