الخامس :
ما ألف استعماله في غير ذلك المعنى لكن في غير التركيب الذي ورد النص ، فيحمله المتأول في هذا التركيب الذي لا يحتمله على مجيئه في تركيب آخر يحتمله كتأويل اليدين في قوله تعالى : (
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) بالنعمة ، ولا ريب أن العرب تقول : لفلان عندي يد ، وقال
عروة بن مسعود للصديق رضي الله عنه : لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك .
ولكن وقوع اليد في هذا التركيب الذي أضاف سبحانه فيه الفعل إلى نفسه ثم تعدى الفعل إلى اليد بالباء التي هي نظير كتبت بالقلم ، وجعل ذلك خاصة خص بها صفيه
آدم دون البشر ، كما خص المسيح بأنه نفخ فيه من روحه ، وخص
موسى بأن كلمه بلا واسطة .
فهذا مما يحيل تأويل اليد في النص بالنعمة ، وإن كانت في تركيب آخر تصلح لذلك ، فلا يلزم من صلاحية اللفظ لمعنى ما في تركيب صلاحيته له في كل تركيب . وكذلك قوله تعالى : (
وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) يستحيل فيها تأويل النظر بانتظار الثواب ، فإنه أضاف النظر إلى الوجوه بالنظرة التي لا تحصل إلا مع حضور ما يتنعم به لا مع التنغيص بانتظاره ، ويستحيل مع هذا التركيب تأويل النظر بغير الرؤيا وأن كل النظر بمعنى الانتظار في قوله تعالى : (
انظرونا نقتبس من نوركم ) ، وقوله : (
فناظرة بم يرجع المرسلون ) .
ومثل هذا
قول الجهمي الملبس : إذا قال لك المشبه : ( الرحمن على العرش استوى ) فقل له : العرش له عدة معان ، والاستواء له خمس معان ، فأي ذلك المراد ؟ فإن المشبه يتحير ولا يدري ما يقول .
فيقال لهذا الجاهل : ويلك ، ما ذنب الموحد الذي سميته أنت وأصحابك مشبها وقد قال لك نفس ما قال الله تعالى ، فوالله لو كان مشبها كما تزعم لكان أولى بالله ورسوله منك لأنه لم يتعد النص .
[ ص: 26 ] وأما قولك : العرش له سبعة معان ونحوه ، والاستواء له خمسة معان فتلبيس منك على الجهال وكذب ظاهر ، فإنه
ليس لعرش الرحمن الذي استوى عليه إلا معنى واحد وإن كان للعرش من حيث الجملة عدة معان فاللام للعهد قد صار بها في العرش معينا وهو عرش الرب تعالى ، الذي هو سرير ملكه الذي اتفقت عليه الرسل وأقرت به الأمم إلا من نابذ الرسل .
وقولك : الاستواء له عدة معان تلبيس آخر منك ، فإن الاستواء المعدى بأداة " على " ليس له إلا معنى واحد ، وأما الاستواء المطلق فله عدة معان ، فإن العرب تقول : استوى كذا : انتهى وكمل ، ومنه قوله تعالى : (
ولما بلغ أشده واستوى ) وتقول : استوى وكذا إذا ساواه نحو قولهم : استوى الماء والخشبة واستوى الليل والنهار ، وتقول : استوى إلى كذا إذا قصد إليه علوا وارتفاعا نحو استوى إلى السطح والجبل واستوى على كذا أي ارتفع عليه وعلا عليه ، ولا تعرف العرب غير هذا ، فالاستواء في هذا التركيب نص لا يحتمل غير معناه كما هو نص في قوله تعالى : (
ولما بلغ أشده واستوى ) لا يحتمل غير معناه ، ونص في قولهم : استوى الليل والنهار في معناه ولا تحتمل غيره .