قلت : وهذه الطريق
من أقوى الطرق وأصحها وأدلها على الصانع وصفاته وأفعاله ، وارتباط أدلة هذه الطريق بمدلولاتها أقوى من ارتباط الأدلة العقلىة الصريحة بمدلولاتها ، فإنها جمعت بين دلالة الحس والعقل ودلالتها ضرورية بنفسها ، ولهذا يسميها الله تعالى آيات بينات ، وليس في طرق الأدلة أوثق ولا أقوى منها ، فإن انقلاب عصا تقلها اليد ثعبانا عظيما يبتلع ما يمر به ثم يعود عصا كما كانت من أدل دليل على وجود الصانع ، وحياته وقدرته ومشيئته وإرادته ، وعلمه بالكليات والجزئيات ; وعلى رسالة الرسول ، وعلى المبدأ والمعاد ، فكل قواعد الدين في هذه العصا وكذلك
[ ص: 197 ] اليد ; وفلق البحر طرقا ، والماء قائم بينهما كالحيطان ، ونتق الجبل من موضعه ورفعه على قدر العسكر العظيم فوق رءوسهم ، وضرب حجر مربع بعصا فتسيل منه اثنتا عشرة عينا تكفي أمة عظيمة .
وكذلك سائر آيات الأنبياء كإخراج ناقة عظيمة من صخرة تمخضت بها ثم انصدعت عنها والناس حولها ينظرون ، وكذلك تصوير طائر من طين ثم ينفخ فيه النبي ، فينقلب طائرا ذا لحم ودم وريش وأجنحة يطير بمشهد من الناس ، وكذلك إيماء الرسول إلى القمر فينشق نصفين بحيث يراه الحاضر والغائب ويخبر به كما رآه الحاضرون ، وأمثال ذلك مما هو أعظم الأدلة على الصانع وصفاته وأفعاله وصدق رسله واليوم الآخر ، وهذه من طرق القرآن التي أرشد إليها عباده ودلهم بها ، كما دلهم بما يشاهدونه من أحوال الحيوان والنبات والمطر والسحاب والحوادث التي في الجو وأحوال العلويات من السماء والشمس والقمر والنجوم ، وأحوال النطفة وتقلبها طبقا بعد طبق ، حتى صارت إنسانا سميعا حيا متكلما عالما قادرا يفعل الأفعال العجيبة ويعلم العلوم العظيمة ، وكل طريق من هذه الطرق أصح وأقرب وأوصل من طرق المتكلمين ، التي لو صحت لكان فيها من التطويل والتعقيد والتعسير ما يمنع الحكمة الإلهية والرحمة الربانية ، أن يدل بها عباده عليه وعلى صدق رسله وعلى اليوم الآخر ، فأين هذه
الطريق العسرة الباطلة المستلزمة لتعطيل الرب عن صفاته وأفعاله وكلامه وعلوه على خلقه وسائر ما أخبر به عن نفسه ، وأخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم إلى طرق القرآن التي هي ضد هذه الطريق من كل وجه ، وكل طريق منها كافية شافية هادية .
هذا ; وإن القرآن وحده لمن جعل الله نورا أعظم آية ودليل على هذه المطالب ، وليس في الأدلة أقوى ولا أظهر ولا أصح دلالة منه من وجوه متعددة ، فأدلته مثل ضوء الشمس للبصر ، لا يلحقها إشكال ، ولا يغير في وجه دلالتها إجمال ، ولا يعارضها تجويز واحتمال ، تلج الأسماع بلا استئذان ، وتحل من المعقول محل الماء الزلال ، ومن الصادي الظمآن لا يمكن أحد أن يقدح فيها قدحا يوقع في اللبس ، إلا إن أمكنه أن يقدح بالظهيرة صحوا في طلوع الشمس ، ومن عجيب شأنها أنها تستلزم المدلول استلزاما بينا وتنبه على جواب المعترض تنبيها لطيفا ، وهذا الأمر إنما هو لمن نور الله بصيرته وفتح على قلبه لأدلة القرآن ، فلا تعجب من منكر أو معترض أو معارض .
وقل للعيون العمي للشمس أعين سواك تراها في مغيب ومطلع وسامح نفوسا أطفأ الله نورها
بأهوائها لا تستفيق ولا تعي
[ ص: 198 ] فأي دليل على الله أصح من الأدلة التي تضمنها كتابه ؟ كقوله تعالى : (
أفي الله شك فاطر السماوات والأرض ) ، وقوله : (
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون ) ، وقوله تعالى : (
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ) ، وما لا يحصى من الآيات الكريمات .
الوجه الرابع والأربعون : أنك إذا أخذت لوازم المشترك المطلق والمقيد والمميز ، وميزت هذا من هذا صح نظرك ومناظرتك ، وذلك أن الصفة تلزمها لوازم من حيث هي ، فهذه اللوازم يجب إثباتها ولا يصح نفيها ، إذ نفيها ملزوم لنفي الصفة ، مثاله : الفعل والإدراك للحياة ، فإن كل حي فاعل مدرك ، وإدراك المسموعات بصفة السمع ، وإدراك المبصرات بصفة البصر ، وكشف المعلومات بصفة العلم ، والتمييز لهذه الصفات ، فهذه اللوازم يمتنع رفعها عن الصفة ، فإنها ذاتية لها ، ولا ترتفع إلا برفع الصفة ، ويلزمها لوازم من حيث كونها صفة القديم ، مثل كونها واجبة قديمة عامة التعلق ، فإن صفة العلم واجبة لله قديمة غير حادثة ، متعلقة بكل معلوم على التفصيل ، وهذه اللوازم منتفية عن العلم الذي هو صفة للمخلوقين ، ويلزمها لوازم من حيث كونها ممكنة حادثة بعد أن لم تكن مخلوقة غير صالحة للعموم مفارقة له ، فهذه اللوازم يستحيل إضافتها إلى القديم ، واجعل هذا التفضيل ميزانا لك في جميع الصفات والأفعال ، واعتصم به في
نفي التشبيه والتمثيل ، وفي
بطلان النفي والتعطيل ، واعتبره في
العلو والاستواء تجد هذه الصفة يلزمها كون العالي فوق السافل في القديم والحديث ، فهذا الإلزام حق لا يجوز نفيه ، ويلزمها كون السافل حاويا للأعلى محيطا به حاملا له ، والأعلى مفتقرا إليه ، وهذا في بعض المخلوقات لا في كلها ، بل بعضها لا يفتقر فيه الأعلى إلى أسفل ، ولا يحويه الأسفل ولا يحيط به ولا يحمله ، كالسماء مع الأرض ، فالرب تعالى أجل شأنا وأعظم أن يلزم من علوه من خصائصه ، وهي حمله السافل وفقر السافل إليه ، وغناه سبحانه عنه وإحاطته عز وجل به ; فهو فوق العرش ، وعدم إحاطة العرش به ; وحصره للعرش وعدم حصر العرش له ، وهذه
[ ص: 199 ] اللوازم منتفية عن المخلوقين ، ولو ميز أهل التعطيل هذا التمييز لهدوا إلى سواء السبيل ، ولما فارقوا الدليل .