الوجه الخامس والأربعون : أن
الأصل الذي قادهم إلى التعطيل ، واعتقاد المعارضة بين الوحي والعقل أصل واحد ، وهو منشأ ضلال بني
آدم ، وهو الفرار من تعدد صفات الواحد وتكثر أسمائه الدالة على صفاته ، وقيام الأمور المتجددة به ، وهذا لا محذور فيه ، بل هو الحق لا يثبت كونه سبحانه ربا وإلها وخالقا إلا به ، ونفيه جحد للصانع بالكلىة ، وهذا القدر اللازم لجميع طوائف أهل الأرض على اختلاف مللهم وعلومهم ، حتى لمن أنكر الصانع بالكلية وأنكره رأسا ، فإنه يضطر إلى الإقرار بذلك ، وإن قام عنده ألف شبهة أو أكثر على خلافه ، وأما من أقر بالصانع فهو مضطر إلى أن يقر بكونه حيا عالما قادرا مريدا حكيما فعالا ، ومع إقراره بذلك فقد اضطر إلى القول بتعدد صفات الواحد ، وتكثر أسمائه وأفعاله ، فلو تكثرت لم يلزم من تكثرها وتعددها محذور بوجه من الوجوه .
وإن قال : أنا أنفيها بالجملة ولا أثبت تعددها بوجه قيل له : فهو هذه الموجودات أو غيرها ؟ فإن قال : غيرها قيل : هو خالقها أم لا ؟ فإن قال : هو خالقها قيل له : قبل هو قادر عليها عالم بها مريد لها أم لا ؟ فإن قال : نعم هو كذلك ، اضطر إلى تعدد صفاته وتكثرها ، وإن نفى ذلك كان جاحدا للصانع بالكلية ، ويستدل عليه بما يستدل على الزنادقة الدهرية ، ويقال لهم ما قالت الرسل لأممهم : (
أفي الله شك ) وهل يستدل عليه بدليل هو أظهر للعقول من إقرارها به وبربوبيته .
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
فإن قال : أنا أثبته موجودا واجب الوجود لا صفة له قيل له : فكل موجود على قولك أكمل منه ، وضلال
اليهود والنصارى وعباد الأصنام أعرف به منك ، وأقرب إلى الحق والصواب منك ، وأما فرارك من قيام الأمور المتجدة به ففررت من أمر لا يثبت كونه إلها وربا وخالقا إلا به ، ولا يتقرر كونه صانعا لهذا العالم مع نفيه أبدا ; وهو لازم لجميع طوائف أهل الأرض ، حتى الفلاسفة الذين هم أبعد الخلق من إثبات الصفات ، ولهذا قال بعض عقلاء الفلاسفة : إنه لا يتقرر كونه رب العالمين إلا بإثبات ذلك ، قال : والإجلال من هذا الإجلال واجب ، والتنزيه من هذا التنزيه متعين ، قال بعض العلماء : وهذه المسألة يقوم عليها قريب من ألف دليل عقلي وسمعي والكتب
[ ص: 200 ] الإلهية والنصوص النبوية ناطقة بذلك ، وإنكار لما علم بالضرورة من دين الرسل أنهم جاءوا به .
ونحن نقول : إن
كل سورة من القرآن تتضمن إثبات هذه المسألة ، وفيها أنواع من الأدلة عليها ، فأدلتها تزيد على عشرة آلاف دليل ، فأول سورة في القرآن تدل عليها من وجوه كثيرة ، وهي
سورة أم الكتاب ، فإن قوله : (
الحمد لله ) يدل عليها ، فإنه سبحانه يحمد على أفعاله كما حمد نفسه في كتابه ، وحمده عليها رسله وملائكته والمؤمنون من عباده ، فمن لا فعل له البتة كيف يحمد على ذلك ؟ فالأفعال هي المقتضية للحمد ، ولهذا تجده مقرونا بها كقوله : (
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ) ، (
الحمد لله الذي هدانا لهذا ) ، (
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ) .
الثاني : قوله : (
رب العالمين ) وربوبيته للعالم تتضمن تصرفه فيه وتدبيره له وإنفاذ أمر كل وقت فيه ، وكونه معه كل ساعة في شأن : يخلق ويرزق ، ويحيي ويميت ، ويخفض ويرفع ، ويعطي ويمنع ، ويعز ويذل ، ويصرف الأمور بمشيئته وإرادته ، وإنكار ذلك إنكار لربوبيته وإلهيته وملكه .
الثالث : (
الرحمن الرحيم ) هو الذي يرحم بقدرته ومشيئته من لم يكن له راحما قبل ذلك .
الرابع : قوله : (
مالك يوم الدين ) والملك هو المتصرف فيما هو ملك عليه ومالك له ، ومن لا تصرف له ولا يقوم به فعل البتة لا يعقل له ثبوت ملك .
الخامس : قوله : (
اهدنا الصراط المستقيم ) فهذا سؤال الفعل يفعله لهم لم يكن موجودا قبل ذلك ، وهي الهداية التي هي فعله .
السادس : قوله : (
صراط الذين أنعمت عليهم ) وفعله القائم به وهو الإنعام ، فلو لم يقم به فعل الإنعام لم يكن للنعمة وجود البتة .
السابع : قوله : (
غير المغضوب عليهم ) وهم الذين غضب الله عليهم بعدما أوجدهم وقام بهم سبب الغضب ، إذ الغضب على المعدوم محال ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347241أن العبد إذا قال : ( الحمد لله رب العالمين ) يقول الله تعالى : حمدني [ ص: 201 ] عبدي ، وإذا قال ( الرحمن الرحيم ) قال الله تعالى : أثنى علي عبدي ، فإذا قال : ( مالك يوم الدين ) قال الله تعالى : مجدني عبدي ، وإذا قال : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) قال الله تعالى : هذا بيني وبين عبدي نصفين ، نصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل " ، فهذه أدلة من الفاتحة وحدها .
فتأمل أدلة الكتاب العزيز على هذا الأصل تجدها فوق عد العادين ، حتى إنك تجد في الآية الواحدة على اختصار لفظها عدة أدلة كقوله تعالى : (
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) ، ففي هذه الآية عدة أدلة : أحدها : قوله : (
إنما أمره ) وهذا أمر التكوين الذي لا يتأخر عنه أمر المكون بل يعقبه الثاني : (
إذا أراد شيئا ) ( وإذا ) تخلص الفعل للاستقبال الثالث : (
أن يقول له كن فيكون ) ، ( وأن ) تخلص المضارع للاستقبال الرابع : (
أن يقول ) فعل مضارع إما للحال عاما للاستقبال ، الخامس : قوله : ( كن ) وهما حرفان يسبق أحدهما الآخر يعقبه الثاني ، السادس : قوله : ( فيكون ) ، والفاء للتعقيب يدل على أنه يكون عقب قوله : ( كن ) سواء لا يتأخر عنه .
وقوله تعالى : (
ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ) فهو سبحانه إنما كلمه ذلك الوقت ، وقوله تعالى : (
وناديناه ) ، (
ويوم يناديهم فيقول ) ، وقوله : (
وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ) ، فالنداء إنما حصل ذلك الوقت ، وقوله : (
هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ) ، (
وجاء ربك ) ، (
ثم استوى على العرش ) ، (
وإذا أردنا أن نهلك قرية ) ، (
فعال لما يريد ) ، (
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ، (
يريد الله أن يخفف عنكم ) ، (
والله يريد أن يتوب عليكم ) ، (
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون )
[ ص: 202 ] ، (
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) ، (
قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما ) ، (
كل يوم هو في شأن ) وهذا عند النفاة لا حقيقة له ، بل الشئون للمفعولات ، وأما هو فله شأن واحد قديم ، فهذه الأدلة السمعية وأضعاف أضعافها مما يشهد به صريح العقل ، فإنكار ذلك وإنكار تكثر الصفات وتعدد الأسماء هو أفسد للعقل والنقل وأفتح باب للمعارضة .
الوجه السادس والأربعون : أن يقال لهؤلاء المعارضين للوحي بعقولهم : إن من أئمتكم من يقول : إنه ليس في العقل ما يوجب
تنزيه الرب سبحانه عن النقائص ، ولم يقم على ذلك دليل عقلي أصلا ، صرح به
الرازي ; وتلقاه عن
الجوني وأمثاله ، قالوا وإنما نسيا عنه النقائص بالإجماع ; وقد قدح
الرازي وغيره من النفاة في دلالة الإجماع ، وبينوا أنها ظنية لا قطعية ، فالقوم ليسوا قاطعين بتنزيه الله عن النقائص بل غاية ما عندهم في ذلك الظن .
فيا أولي الألباب ، كيف تقوم الأدلة القطعية على نفي صفات الله ونعوت جلاله وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه ، وتكلمه بالقرآن حقيقة وتكلمه
لموسى ، حتى يدعى أن الأدلة السمعية على ذلك قد عارضها صريح العقل ؟ وأما
تنزيهه عن العيوب والنقائص فلم يقم عليه دليل عقلي ولكن علمناه بالإجماع ، وقلتم : إن دلالته ظنية ، ويكفيك في فساد عقل معارض الوحي أنه لم يقم عنده دليل عقلي على تنزيه ربه عن العيوب والنقائص .
الوجه السابع والأربعون : إن
الله تعالى جعل بعض مخلوقاته عاليا على بعض ولم يلزم من ذلك مماثلة العالي ومشابهته له ، فهذا الماء فوق الأرض ، والهواء فوق الماء ، والنار فوق الهواء ، والأفلاك فوق ذلك ، وليس عاليها مماثلا لسافلها ، والتفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم من التفاوت الذي بين المخلوقات ، فكيف يلزم من علوه تشبيهه بخلقه .
فإن قلتم : وإن لم يلزم التشبيه لكن يلزم التجسيم قيل : انفصلوا أولا عن قول
المعطلة للصفات : لو كان له سمع أو بصر أو حياة أو علم أو قدرة أو كلام لزم التجسيم ، فإذا انفصلتم منهم ، فإن أبيتم إلا الجواب قيل لكم ، ما تعنون بالتجسيم ؟
[ ص: 203 ] أتعنون به
العلو على العالم والاستواء على العرش ، وهذا حاصل قولكم ؟ وحينئذ فما زدتم على إبطال ذلك بمجرد الدعوى التي اتحد فيها اللازم والملزوم بتقرير العبارة ، وكأنكم قلتم : لو كان فوق العالم مستويا على عرشه لكان فوق العالم ، ولكنكم لبستم وأوهمتم .
وإن عنيتم بالجسم المركب من الجواهر الفردة ، فجمهور العقلاء ينازعونكم في إثبات الجواهر الفردة فضلا عن تركيب الأجسام من ذلك ، فأنتم أبطلتم هذا التركيب الذي تدعيه الفلاسفة ، وهم أبطلوا التركيب الذي تدعونه من الجواهر الفردة ، وجمهور العقلاء أبطلوا هذا وهذا ، فإن كان هذا غير لازم في الأجسام المحسوسة المشاهدة ، بل هو باطل فكيف يدعى لزومه فيمن ليس كمثله شيء ، وإن عنيتم بالتجسيم تميز شيء منه عن شيء قيل لكم : انفصلوا أولا عن قول نفاة الصفات : لو كان له سمع وبصر وحياة وقدرة لزم أن يتمىز منه شيء عن شيء ، وذلك عين التجسيم ، فإذا انفصلتم عنه أجبناكم بما تجيبونهم به ، فإن أبيتم إلا الجواب منا ، قلنا لكم : إنما قام الدليل على إثبات إله قديم عني بنفيه عن كل ما سواه ، وكل ما سواه فقير إليه ، وكل أحد محتاج إليه ، وليس محتاجا إلى أحد ، ووجود كل أحد يستفاد منه ، ووجوده ليس مستفادا من غيره ، ولم يقم الدليل على استحالة تكثر أوصاف كماله وتعدد أسمائه الدالة على صفاته وأفعاله ، بل هو إله واحد ورب واحد ، وإن تكثرت أوصافه وتعددت أسماؤه .