الخمسون : أن هؤلاء المعارضين بين الوحي والعقل إنما
يدللون بنفي التشبيه والتمثيل ويجعلونه جنة لتعطيلهم ، فأنكروا علوه وكلامه وتكليمه وغير ذلك مما أخبر الله به عن نفسه ، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم حتى آل ذلك ببعضهم إلى نفي ذاته وماهيته
[ ص: 214 ] خشية التشبيه ، وقالوا : هو وجود محض لا ماهية له ، ونفى آخرون وجوده بالكلية خشية التشبيه ، وقالوا : يلزم في الوجود ما يلزم مثبتي الصفات والكلام والعلو ، فنحن نسد الباب بالكلية .
فينبغي أن يعلم في هذا قاعدة عظيمة نافعة جدا هي : أن نفي الشبيه والمثل والنظير ليس في نفسه صفة مدح ولا كمال ، ولا يمدح به المنفي عنه ذلك بمجرده ، فإن العدم المحض الذي هو أخس المعلومات وأنقصها ينفى عن الشبه والمثل والنظير ، ولا يكون ذلك كمالا ولا مدحا ، إلا إذا تضمن كون من نفى عنه ذلك قد اختص من صفات الكمال بصفات باين بها غيره ، وخرج بها عن أن يكون له فيها نظير أو مثل ، فهو لتفرده بها عن غيره صح أن ينفي عنه الشبه والمثيل ، ولا يقال لمن لا سمع له ولا بصر ولا حياة ولا علم ولا كلام ولا فعل : ليس له مثل ولا شبه ولا نظير ، إلا في باب الذم والعيب ، هذا الذي عليه فطر الناس وعقولهم واستعمالهم في المدح والذم كما قيل :
ليس كمثل الفتى زهير خلق يساويه في الفضائل
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14899الفرزدق ( ) :
فما مثله في الناس إلا مملكا أبو أمه حي أخوه يقاربه
أي فما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكا هو أخوه ، فعكس
المعطلة المعنى فجعلوا (
ليس كمثله شيء ) جنة يتترسون بها لنفي علو الله سبحانه على عرشه وتكليمه لرسله وإثبات صفات كماله .
ومما ينبغي أن يعلم أن كل سلب ونفي لا يتضمن إثباتا فإن الله لا يوصف به ، لأنه عدم محض ونفي صرف لا يقتضي مدحا ولا كمالا ، ولهذا كان تسبيحه وتقديسه مستلزمين لعظمته ومتضمنين لصفات كماله ، وإلا فالمدح بالعدم المحض كلا مدح ، ولهذا كان عدم السنة والنوم مدحا وكمالا في حقه لتضمنه أو استلزامه كمال حياته وقيوميته ، ونفي اللغوب عنه كمال لاستلزامه كمال قدرته وقوته ، ونفي النسيان عنه كمال لتضمنه كمال علمه ، وكذلك نفي عزوب شيء عنه ونفي الصاحبة والولد كمال
[ ص: 215 ] لتضمنه كمال غناه وتفرده بالربوبية ، وأن من في السماوات والأرض عبيد له ، وكذلك نفي الكفء والسمي والمثل عنه كمال ، لأنه مستلزم ثبوت جميع أوصاف الكمال له على أكمل الوجوه واستحالة مشارك له فيها .
فالذين يصفونه بالسلوب من
الجهمية والفلاسفة لم يعرفوه من الوجه الذي عرفته به الرسل وعرفوه به إلى الخلق ، وهو الوجه الذي يحمد به ويعرف به عظمته وجلاله ، وإنما عرفوه من الوجه الذي يقودهم إلى تعطيل العلم والمعرفة والإيمان به لعدم اعتقادهم الحق ، وحقيقة أمرهم أنهم لم يثبتوا لله عظمة إلا ما تخيلوه في نفوسهم من السلوب والنفي الذي لا عظمة فيه ولا مدح فضلا عن أن يكون كمالا ، بل ما أثبتوه مستلزم لنفي ذاته رأسا .
وأما الصفاتية الذين يؤمنون ببعض ويجحدون بعضا ، فإذا أثبتوا علما ، وقدرة وإرادة ، وغيرها تضمن ذلك إثبات ذات تقوم بهذه الصفات ، وتتميز بحقيقتها وماهيتها : سواء سموه قدرا أو لم يسموه ، فإن لم يثبتوا ذاتا متميزة بحقيقتها وماهيتها كانوا قد أثبتوا صفات بلا ذات كما أثبت إخوانهم ذاتا بغير صفات ، وأثبتوا أسماء بلا معان ، وذلك كله مخالف لصريح العقول ، فلا بد من إثبات ذات محققة لها الأسماء الحسنى ، وإلا فأسماء فارغة لا معنى لها لا توصف بحسن فضلا عن كونها أحسن من غيرها يوضحه : الوجه الحادي والخمسون : أن
الله سبحانه قرن بين هذين الاسمين الدالين على علوه وعظمته في آخر آية الكرسي ، وفي سورة الشورى ، وفي سورة الرعد ، وفي سورة سبأ في قوله : (
ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ) ففي آية الكرسي ذكر الحياة التي هي أصل جميع الصفات ، وذكر معها قيوميته المقتضية لدوامه وبقائه ، وانتفاء الآفات جميعها عنه من النوم والسنة والعجز وغيرها ، ثم ذكر كمال ملكه ، ثم عقبه بذكر وحدانيته في ملكه وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ، ثم ذكر سعة علمه وإحاطته ، ثم عقبه بأنه لا سبيل للخلق إلى علم شيء من الأشياء إلا بعد مشيئته لهم أن يعلموه ، ثم ذكر سعة كرسيه منبها به على سعته سبحانه وعظمته وعلوه ، وذلك توطئة بين يدي علوه وعظمته ثم أخبر عن كمال اقتداره وحفظه للعالم العلوي
[ ص: 216 ] والسفلي ، من غير اكتراث ولا مشقة وتعب ، ثم ختم الآية بهذين الاسمين الجليلين الدالين على علو ذاته وعظمته في نفسه .
وقال في سورة طه : (
يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ) وقد اختلف في مفسر الضمير في ( به ) فقيل هو الله سبحانه ، أي : ولا يحيطون بالله علما ، وقيل هو : (
ما بين أيديهم وما خلفهم ) فعلى الثاني يرجع إلى المعلوم ، وهذا القول يستلزم الأول من غير عكس ، لأنهم إذا لم يحيطوا ببعض معلوماته المتعلقة بهم ، فإن لا يحيطون علما به سبحانه من باب أولى .
كذلك الضمير في قوله : (
ولا يحيطون بشيء من علمه ) يجوز أن يرجع إلى الله ، ويجوز أن يرجع إلى (
ما بين أيديهم وما خلفهم ) ولا يحيطون بشيء من علم ذلك إلا ما شاء فعلى الأول يكون المصدر مضافا إلى الفاعل ، وعلى الثاني يكون مضافا إلى المفعول .
والمقصود أنه لو كان
العلي العظيم إنما يريد به اتصافه بالعلم والقدرة والملك ، ومواضع ذلك كان تكريرا ، فإن ذكر ذلك مفصلا أبلغ من الدلالة عليه بما لا يفهم إلا بكلفة ، وكذلك إذا قيل : إن علوه مجرد كونه أعظم من مخلوقات وأفضل منها ، فهذا هضم عظيم لهاتين الصفتين العظيمتين ، وهذا لا يليق ولا يحسن أن يذكر ويخبر به عنه إلا في معرض الرد لمن ساوى بينه وبين غيره في العبادة والتأله ، كقوله تعالى : (
قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون ) وقول
يوسف الصديق : (
أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) فهذا السياق يقال في مثله : إن الله خير مما سواه ، وأما بعد أن يذكر مالك الكائنات ويقال مع ذلك إنه أفضل من مخلوقاته ، وأعظم من مصنوعاته ، فهذا ينزه عنه كلامه ، وإنما يليق بهؤلاء الذين يجعلون لله مثل السوء في كلامه ، ويجعلون ظاهره كفرا تارة ، وضلالة أخرى ، وتارة تجسيما وتشبيها ، ويقولون فيه ما لا يرضى أحدنا أن يقوله في كلامه .
[ ص: 217 ]