مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
ومن نظر في هذا العالم وتأمله حق تأمل وجده كالبيت المبني المعد فيه جميع عتاده ، فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منضودة كالمصابيح ، والمنافع مخزونة كالذخائر ، كل شيء منها لأمر يصلح له ، والإنسان المخول فيه ، وضروب النبات مهيئات لمآربه ، وصنوف الحيوان مصرفة في مصالحه ، فمنها ما هو للدر والنسل والغذاء فقط ، ومنها ما هو لمركوب والحملة فقط ، ومنها ما هو للجمال والزينة ، ومنها ما يجمع ذلك كله بالإبل ، وجعل أجوافها خزائن لما هو شراب وغذاء ودواء وشفاء ، ففيها عبرة للناظرين وآيات للمتوسمين ، وفي الطير واختلاف أنواعها وأشكالها وألوانها ومقاديرها ومنافعها وأصواتها صافات وقابضات ، وغاديات ورائحات ، ومقيمات وظاعنات ، أعظم عبرة وأعظم دلالة على حكمة الخلاق العليم ، وكل ما أخذه الناس وأدركوه بالأفكار الطويلة والتجارب المتعددة من أصناف الآلات والمصانع وغيرها إذا فكر فيها المتفكر وجدها مشتقة من الخلقة ، ومستنبطة من الصنع الإلهي .

مثال ذلك أن القبان مستنبط من خلقه البعير ، فإنهم لما رأوه ينهض بحمله وينوء به ويمد عنقه ويوازن حمله برأسه استنبطوا القبان من ذلك ، وجعلوا طول حديدته في مقابلة طول العنق ، ورمان القبان في مقابلة رأس البعير فتم لهم ما استنبطوه ، كذلك استنبطوا بناء الأقبية من ظهره ، فإنهم وجدوه يحمل ما لا يحمل غيره فتأملوا ظهره فإذا [ ص: 227 ] هو كالقبو ، فعلموا أن القبو يحمل ما لا يحمل السطح ، وكذلك ما استنبطه الحذاق لكل من كل بصره أن يديم النظر إلى إجانة خضراء مملوءة ماء استنباطا من حكمة الخلاق العليم في لون السماء ، فإن لونها أشد الألوان موافقة للبصر ، فجعل أديمها بهذا اللون ليمسك الأبصار ولا ينكأ فيها بطول مباشرته لها ، وإذا فكرت في طلوع الشمس وغروبها لإقامة دولتي الليل والنهار ، ولولا طلوعها لبطل أمر هذا العالم ، فكم في طلوعها من الحكم والمصالح ، وكيف يكون حال الحيوان لو أمسكت عنه وجعل الليل عليه سرمدا والدنيا مظلمة عليه ؟ فبأي نور كانوا يتصرفون ؟ وكيف كانت تنضج ثمارهم ، وتكمل أقواتهم وتعتدل صورهم ، فالحكم في طلوعها أعظم من أن تختفي أو تحصى ، ولكن تأمل الحكمة في غروبها ، فلولا غروبها لم يكن للحيوان هدوء ولا قرار ، مع شدة حاجتهم إلى الهدوء والراحة ، وأيضا لو دامت على الأرض لاشتد حرها بدوام طلوعها عليها ، فاحترق كل ما عليها من حيوان ونبات ، فاقتضت حكمة الخلاق العليم والعزيز الحكيم أن جعلها تطلع عليهم في وقت دون وقت ، بمنزلة سراج يرفع لأهل الدار مليا ليقضوا مأربهم ثم يغيب عنهم مثل ذلك ليقروا ويهدءوا ، وصار ضياء النهار وحرارته ، وظلام الليل وبرده ، على تضادهما وما فيهما متظاهرين متعاونين على ما فيه صلاح العالم وقوامه .

ثم اقتضت حكمته أن جعل للشمس ارتفاعا وانحطاطا لإقامة هذه الفصول الأربعة من السنة ، وما فيها من قيام الحيوان والنبات ، ففي زمن الشتاء تفور الحرارة في الشجر والنبات ، فيتولد فيها مواد النار ويغلظ الهواء بسبب الرد فيصير مادة للسحاب ، فيرسل العزيز الحكيم الريح المثيرة فتنشره قزعا ثم يرسل عليه المؤلفة فتؤلف بينه حتى يصير طبقا واحدا ، ثم يرسل عليه الريح اللاقحة التي فيها مادة الماء فتلقحه كما يلقح الذكر الأنثى فيحمل الماء من وقته ، فإذا كان بروز الحمل وانفصاله أرسل عليه الريح الذارية فتذروه وتفرقه في الهواء لئلا يقع صبة واحدة فيهلك ما على الأرض وما أصابه ويقل الانتفاع به ، فإذا أسقى ما أمر بسقيه وفرغت حاجتهم منه أرسل عليه الرياح السائقة فتسوقه وتزجيه إلى قوم آخرين ، وأرض أخرى محتاجة إليه ، فإذا جاء الربيع [ ص: 228 ] تحركت الطبائع وظهرت المواد الكامنة في الشتاء فخرج النبات ، وأخذت الأرض زخرفها وازينت وأنبتت من كل زوج كريم ، فإذا جاء الصيف سخن الهواء وتحللت فضلات الأبدان ، فإذا جاء الخريف كسر ذلك السموم والحرور ، وبرد الهواء واعتدل وأخذت الأرض والشجر في الراحة والجموم والاستعداد للحمل الآخر .

واقتضت حكمته سبحانه أن أنزل الشمس والقمر في البروج وقدر لهما المنازل ليعلم العباد عدد السنين والحساب من الشهور والأعوام ، فتتم بذلك مصالحهم وتعلم بذلك آجال معاملاتهم ومواقيت حجهم وعباداتهم ومدد أعمارهم ، وغير ذلك من مصالح حسابهم ، فالزمن مقدار الحركة ألا ترى أن السنة الشمسية مسير الشمس من الحمل إلى الحمل ، واليوم مقدار مسيرها من المشرق إلى المغرب ، وتحرك الشمس والقمر لكمال الزمان من يوم خلقا إلى أن يجمع الله بينهما ويعزلهما عن سلطانهما ، ويرى عابديهما أنهم عبدوا الباطل من دونه ، قال تعالى : ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون ) ، وقال تعالى : ( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا ) .

واقتضت حكمته سبحانه في تدبيره أن فاوت بين مقادير الليل والنهار ولم يجعلهما دائما على حد سواء ولا أطول مما هما عليه وأقصر ، بل جاء استواؤهما وأخذ أحدهما من الآخر على وفق الحكمة ، حتى إن المكان الذي يقصر أحدهما فيه جدا لا يتكون فيه حيوان ونبات ، كالمكان الذي لا تطلع عليه الشمس أو لا تغرب عنه ، فلو كان النهار مقدار مائة ساعة أو أكثر ، أو كان الليل كذلك لتعطلت المصالح التي نظمها الله بهذا المقدار في الليل والنهار .

ثم تأمل الحكمة في إنارة القمر والكواكب في ظلمة الليل ، فإنه مع الحاجة إلى الظلمة لهدوء الحيوان وبرد الهواء لم تقتض المصلحة أن يكون الليل ظلمة داجية لا ضياء فيها ، فلا يمكن فيها شيء من العمل ، وربما احتاج الناس إلى العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في النهار ولإفراط الحر فيه ، فاحتاجوا إلى العمل في الليل في نور [ ص: 229 ] القمر من حرث الأرض وقطع الزرع وغير ذلك ، فجعل ضوء القمر في الليل معونة للناس على هذه الأعمال ، وجعل في الكواكب جزءا يسيرا من النور ليسد مسد القمر إذا لم يكن ، وجعلت زينة السماء معالم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، ودلالات واضحات على الخلاق العليم ، وغير ذلك من الحكم التي بها انتظام هذا العالم ، وجعلت الشمس على حالة واحدة لا تقبل الزيادة والنقصان لئلا تتعطل الحكم المقصودة منها ، وجعل القمر يقبل الزيادة والنقصان لئلا تتعطل الحكم المقصودة من جعله كذلك ، وإن كان نوره من التبريد والتصلب ما يقابل ما في ضوء الشمس من التسخين والتحليل ، فتنضم المصلحة وتتم الحكمة من هذا التسخين والتبريد .

ثم تأمل اللطف والحكمة الإلهية في جعل الكواكب السيارات ومنازلها تظهر في بعض السنة وتحتجب في بعضها ، لأنها لو ظهرت دائما أو اختفت دائما لفاتت الحكمة المطلوبة منها ، كما اقتضت الحكمة أن يظهر بعضها ويحتجب بعضها ، فلا تظهر كلها دفعة واحدة ، ولا تحتجب دفعة واحدة ، بل ينوب ظاهرها عن خفيها في الدلالة ، وجعل بعضها ظاهرا لا يحتجب أصلا بمنزلة الأعلام المنصوبة التي يهتدي بها الناس في الطرق المجهولة في البر والبحر ، فهم ينظرون إليها متى أرادوا ويهتدون بها حيث شاءوا .

ثم تأمل حال النجوم واختلاف مسيرها ، ففرقة منها لا تريم مراكزها من الفلك ولا تسير إلا مجتمعة كالجيش الواحد ، وفرقة منها مطلقة تنتقل في البروج وتتفرق في مسيرها ، وكل واحد منها يسير سيرين مختلفين ، أحدهما عام مع الفلك نحو المغرب ، والآخر خاص لنفسه نحو المشرق ، وذلك من أعظم الدلالات على الفاعل المختار العليم الحكيم وعلى كمال علمه وحكمته .

وتأمل كيف صار هذا الفلك بشمسه وقمره ونجومه وبروجه يدور على هذا العالم هذا الدوران العظيم السريع المستمر بتقدير محكم لا يزيد ولا ينقص ولا يختل نظامه ، بل هو تقدير العزيز العليم ، كما أشار تعالى إلى أن ذلك التقدير صادر عن كمال عزته وعلمه ، قال تعالى : ( فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم ) .

وتأمل الحكمة في تعاقب الحر والبرد على هذا العالم وتعاورهما عليهما في [ ص: 230 ] الزيادة والنقصان والاعتدال ، وما فيهما من المصالح والحكم للأبدان والشجر والحيوان والنبات ، ولولا تعاقبهما لفسدت الأبدان والأشجار وانتكست .

ثم تأمل دخول أحدهما على الآخر بهذا التدريج والترسل ، فإنك ترى أحدهما ينقص شيئا بعد شيء ، والآخر يزيد مثل ذلك ، حتى ينتهي كل واحد منتهاه في الزيادة والنقصان ، ولو دخل أحدهما على الآخر فجأة لأضر ذلك بالأبدان وأسقمها ، كما لو خرج الرجل من مكان شديد الحر إلى مكان مفرط في البرد وهلة ، فإن ذلك يضر به جدا ، ولولا الحر لما نضجت هذه الثمار المرة العفنة القاسية ، ولا كانت تلين وتطيب وتحسن وتصلح لأن يتفكه بها الناس رطبة ويابسة .

وتأمل الحكمة في خلق النار على ما هي عليه ، فإنها لو كانت ظاهرة كالماء والهواء لكانت محرقة للعالم وما فيه ، ولو كانت كامنة لا سبيل إلى ظهورها لفاتت المصلحة المطلوبة منها ، فاقتضت الحكمة أن جعلت كامنة قابلة للظهور عند الحاجة إليها ولبطلانها عند الاستغناء عنها ، فجعلت مخزونة في محلها تخرج عند الحاجة ، وتمسك بالمادة من الحطب وغيره ما احتيج إلى بقائها ، تخبأ إذا استغني عنها ، وخلقت على وضع وتقدير اجتمع فيه الانتفاع بها والسلامة من ضررها ، قال الله تعالى : ( أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين ) .

الوجه الرابع : أن الرب سبحانه له الكمال المطلق الذي يستحق عليه الحمد سبحانه ، لا يصدر منه إلا ما يحمد عليه ، وحمد الله على نوعين ، حمدا يستحقه لذاته وصفاته وأسمائه الحسنى ، وحمدا يستحقه على أفعاله كلها لم يكن فيها مناف للحكمة ، إذ لو كان فيها ما هو كذلك لم يكن محمودا عليه ، وهو سبحانه له الملك وله الحمد ، فحمده شامل لما شمله ملكه ، ولا يخرج شيء عن حمده كما لا يخرج شيء عن ملكه ، يوضحه : الوجه الخامس : أن أدلة حكمته وحمده ، وأدلة ملكه وقدرته متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر ، وكل ما دل على عموم قدرته ومشيئته وملكه وتصرفه المطلق ، فهو دال على عموم حمده وحكمته ، إذ إثبات قدرة وملك بلا حكمة ولا حمد ليس كمالا ، وكل ما دل على عموم حكمته وحمده فهو دال على ملكه وقدرته ، فإن الحمد والحكمة إن لم يستلزما كمال القدرة لم يكن فيهما كمال مطلق ، وهذا برهان قطعي .

[ ص: 231 ] ثم يقال : إن جاز القدح في حكمته وحمده جاز القدح في ملكه وربوبيته بل هو عين القدح في الملك والربوبية ، كما أن القدح في ملكه وربوبيته قدح في حمده وحكمته ، وهذا ظاهر جدا ، وهذا شأن كل مثلين حين لا ينفك أحدهما عن الآخر .

التالي السابق


الخدمات العلمية