فصل
فإن كثف علمك عن هذا ولم يتسع له عقلك ، فاذكر النعم وما عليها من الحقوق ووازن بين شكرها وكفرها ، فحينئذ تعلم أنه لو عذب أهل السماوات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك : ينشر للعبد يوم القيامة ثلاثة دواوين : ديوان فيه ذنوبه ، وديوان فيه النعم ، وديوان فيه العمل الصالح ، فيأمر الله تعالى أصغر نعمة من نعمه فتقوم تستوعب عمله فيه ، ثم تقول : أي ربي ، وعزتك وجلالك ما استوعبت
[ ص: 250 ] ثمني ، وقد بقيت الذنوب والنعم ، فإذا أراد الله بعبده خيرا قال : ابن
آدم ، ضعفت حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك ، ووهبت لك نعمتي فيما بيني وبينك .
ومما يوضح الأمر أن من
حق الله على عبده أن يرضى به ربه وبالإسلام دينا
وبمحمد رسولا ، وهذا الرضى يقتضي رضاه بربوبيته له في كل ما يقضيه ويقدره عليه في عطائه له ومنعه ، وفي قبضه وبسطه ، ورضاه بالإسلام دينا يوجب عليه رضاه به وعنه في كل ما يأمره به وينهاه عنه ، ويحبه منه ويكرهه له ، فلا يكون في صدره من ذلك حرج بوجه ما ، ورضاه
بمحمد رسولا يوجب أن يرضى بحكمه له وعليه ، وأن يسلم لذلك وينقاد له ولا يقدم عليه غيره ، وهذا يوجب أن يكون حبه كله لله ، وبغضه كله لله ، وعطاؤه لله ومنعه لله ، وفعله لله وتركه لله ، وإذا قام بذلك كانت نعم الله عليه أكثر من عمله ، بل فعله ذلك من أعظم نعم الله عليه ، حيث وفقه له ويسره له وأعانه عليه وجعله من أهله وحضه به ، فهو يستوجب شكرا آخرا عليه ، فلا سبيل له إلى القيام فيما يجب لله تعالى عليه من الشكر أبدا ، فنعم الله تطالبه بالشكر ، وأعماله لا يقبلها وذنوبه وغفلته وتقصيره قد يستنفد عمله ، فديوان النعم وديوان الذنوب يستنفدان طاعاته كلها ، هذا ، وأعمال العبد مستحقة عليه بمقتض كونه عبدا مملوكا مستعملا فيما يأمر به سيده ، فنفسه مملوكة وأعماله مستحقه عليه بموجب العبودية فلا يستحق ثوابا ولا جزاء ، فلو أمسك الثواب والجزاء الذي يتنعم به لم يكن ظالما ، فإنه يكون قد فعل ما وجب عليه بحق كونه عبدا ، ومن لم يحكم هذا الموضع فإنه عند الذنوب وعقوباتها يصدر منه من الأقوال ما يكون فيها أو في بعضها خصما لله متظلما منه شاكيا له ، وقد وقع في هذا من شاء الله من الناس ، ولو حركت النفوس لرأيت العجب .
ومما يوضح ذلك أنه سبحانه عادل ، لو عم أهل السماوات والأرض بالعذاب لكان عادلا ، فهو إنما ينزل العذاب بسبب من يستحقه منهم ثم يعم العذاب من لا يستحقه ،
[ ص: 251 ] كما أهلك سبحانه الأمم المكذبين بعذاب الاستئصال ، وأصاب العذاب الأطفال والبهائم ومن لم يذنب ، وكذلك إذا عصاه أهل الأرض أمسك عنهم قطر السماء ، فيصيب ذلك العذاب البهائم والوحوش في الفلوات ، فتموت الحبارى في وكورها هزلا بخطايا بني
آدم ، ويموت الضب في جحره جوعا ، وقد أغرق الله أهل الأرض كلهم بخطايا قوم
نوح ، وفيهم الأطفال والبهائم ، ولم يكن ذلك ظلما منه سبحانه ، فالعقوبة الإلهية التي اشترك الناس في أسبابها تأتي عامة ، وقد كسر الصحابة رضي الله عنهم يوم
أحد بذنوب أولئك الذين عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلوا مركزهم ، وانهزموا يوم
حنين لما حصل لبعضهم من الإعجاب بكثرتهم ، فعمت عقوبة ذلك الإعجاب ، وهذا عين العدل والحكمة ، لما في ذلك من المصالح التي لا يعلمها إلا الله تعالى .
وغاية ما يقال : فهلا خصت العقوبة صاحب الجريمة ؟ فيقال : العقوبة العامة التي تبقى آية وعبرة وموعظة ، لو وقعت خاصة لارتفعت الحكمة المقصودة منها ، وفاتت العبرة ، ولم يظهر للناس أنها بذلك السبيل ، بل لعل قائلا يقول : قدرا اتفق ، وإذا أصاب العذاب من لا يستحقه ، فمن يثاب في الآخرة معجل له الراحة في الدنيا بالموت الذي لا بد منه ، ويتداخل الثواب في الآخرة ، ومن لا يثاب كالبهائم التي لا بد من موتها فإنها لا تتعجل الراحة وما يصيبها من ألم الجوع والعطش ، فهو من لوازم العدل والحكمة مثل الذي يصيبها من ألم الحر والبرد والحبس في بيوتها التي مصلحتها أرجح من مفسدة ما ينالها ، وهكذا مصلحة هذه العقوبة العامة وجعلها عبرة للأمم أرجح من مفسدة تألم تلك الحيوانات .