فصل
إن كمال العبودية والمحبة والطاعة إنما يظهر عند المعارضة والدواعي إلى الشهوات والإرادات المخالفة للعبودية ، وكذلك الإيمان تتبين حقيقته عند المعارضة والامتحان وحينئذ يتبين الصادق من الكاذب ، قال الله تعالى : (
الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) ، وقال تعالى : (
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) ، وقال تعالى : (
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا )
[ ص: 254 ] ، فالجنة لا ينالها المكلفون إلا بالجهاد والصبر ،
فخلق الشياطين وأوليائهم وجندهم من أعظم النعم في حق المؤمنين ، فإنهم بسبب وجودهم صاروا مجاهدين في سبيل الله يحبون لله ويبغضون لله ، يوالون فيه ويعادون فيه ، ولا تكمل نفس العبد ولا يصلح لها الزكاة والفلاح إلا بذلك ، وفي التوراة : إن الله تعالى قال
لموسى : اذهب إلى
فرعون فإني سأقسي قلبه لتظهر آياتي وعجائبي ، ويتحدث بها جيلا بعد جيل بتكذيب المشركين
لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وسعيهم في إبطال دعوته ومحاربته كانت من أعظم النعم عليه وعلى أمته ، وإن كان من أعظم النقم على الكافرين ، فكم حصل في ضمن هذه المعاداة والمحاربة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه ولأمته من نعمة ، وكم رفعت بها درجة ، وكم قامت بها لدعوته عن حجة وكم أعقب ذلك من نعيم مقيم وسرور دائم ، ولله كم من فرحة وقرة عين في مغايظة العدو وكتبه ، فما طاب العيش إلا بذلك ، فمعظم اللذة في غيظ عدوك ، فمن أعظم نعم الله على عباده المؤمنين أن خلق لهم مثل هذا العدو ، وأن القلوب المشرقة بنور الإيمان والمعرفة لتعلم أن النعمة بخلق هذا العدو ليست بدون النعمة بخلق أسباب اللذة والنعمة ، فليست بأدنى النعمتين عليهم ، وإن كانت مقصورة لغيرها ، فإن الذي يترتب من الخير المقصود لذاته أنفع وأفضل وأجل من فواته .