وإن قلتم
جعلناه إلها لقول زكريا في نبوته : افرحي يا بنت صهيون لأني آتيك وأحل فيك وأتراءى ، وتؤمن بالله في ذلك اليوم الأمم الكثيرة ، ويكونون له شعبا
[ ص: 509 ] واحدا ، ويحل هو فيهم ويعرفون أني أنا الله القوي الساكن فيك ، ويأخذ الله في ذلك اليوم الملك من يهودا ويملك عليهم إلى الأبد .
قيل لكم : إن وجبت له الإلهية بهذا فتجب
لإبراهيم وغيره من الأنبياء ، فإن عند أهل الكتاب وأنتم معهم ، أن الله تجلى على
إبراهيم واستعلن له وتراءى له .
وأما قوله : وأحل فيك ، لم يرد الله سبحانه وتعالى حلول ذاته التي لم تسعها السماوات والأرض في
بيت المقدس ، وكيف تحل ذاته في مكان يكون فيه مقهورا مغلوبا مع شرار الخلق ؟ كيف وقد قال : ويعرفون أني أنا الله القوي الساكن فيك ؟ أفترى عرفوا قوته بالقبض عليه ، وشد يديه بالحبال ، وربطه على خشبة الصليب ، ودق المسامير في يديه ورجليه ، ووضع تاج الشوك على رأسه ، وهو يستغيث ولا يغاث ؟ وما كان
المسيح يدخل بيت المقدس إلا وهو مغلوب مقهور مستخف في غالب أحواله .
ولو صح مجيء هذه الألفاظ صحة لا تدفع ، وصحت ترجمتها كما ذكروه ، لكان معناها أن معرفة الله والإيمان به ، وذكره ودينه وشرعه حل في تلك البقعة ،
وبيت المقدس ، لما ظهر فيه دين
المسيح بعد رفعه حصل فيه من الإيمان بالله ومعرفته ما لم يكن قبل ذلك .
وجماع الأمر أن النبوات المتقدمة والكتب الإلهية لم تنطق بحرف واحد يقتضي أن يكون ابن البشر إلها تاما ، إله حق ، وأنه غير مصنوع ولا مربوب ، بل لم يخصه إلا بما خص به أخوه وأولى الناس به
محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في قوله : إنه عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى
مريم وروح منه .
وكتب الأنبياء المتقدمة وسائر النبوات موافقة بما أخبر به
محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك كله يصدق بعضه بعضا ، وجميع ما تستدل به المثلثة عباد الصليب على إلهية
المسيح من
[ ص: 510 ] ألفاظ وكلمات في الكتب فإنها مشتركة بين
المسيح وغيره ، كتسميته ابنا وكلمة وروح الحق وإلها ، وكذلك هو روح القدس ، أما روح القدس فهي سر الله وأمره ، وقد ورد في الكتب الإلهية لغير
المسيح .
وقد أطلقت لمعان منها
جبريل ، ومنها اسم الله الأعظم ، ومنها الوحي ، وقد أطلقت على
المسيح لأن روحه لم تخالط نطفة ، والقدوس هو الطاهر ، ولذلك أطلق على
المسيح روح الله ، وهذه الإضافة إضافة تعظيم كقوله : بيت الله وناقة الله وكما كانت الأمم الماضية يطلقون على أنفسهم أبناء الله ، ومنها القرآن الذي هو أعم من القرآن المنزل على
محمد الشامل لكل كتاب منزل .
وأما
الروح التي بها الحياة فهي النفس على قاعدة أهل السنة ، وهي جسم لطيف ويشاكل الأجسام المحسوسة تحدث ، ويخرج بها إلى السماء بفرح ، لا تموت ولا تفنى ، وهي مما له أول وليس له آخر كالجنة والنار ، والأجساد في المعاد وهي بعينين ويدين ، وهي ذو ريحة طيبة أو كريهة بحسب محلها ، وهي إما منعمة أو معذبة ، وذلك غاية الدليل على حدوثها .
وإنما
سمي المسيح روح الله ، لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذي روح ، كالنطفة المنفصلة من الأب الحي ، وإنما اخترع اختراعا من عند الله ، وقدرته خالصة .
وسمي كلمة الله لأنه وجد بكلمته وأمره من غير واسطة أب ولا نطفة وهذا ظاهر .
وكذلك ما أطلق من حلول روح القدس فيه ، وظهور الرب فيه أو في مكانه ، وقد وقع في نظير شركهم وكفرهم طوائف من المنتسبين إلى الإسلام ، واشتبه عليهم ما يحل في قلوب العارفين من الإيمان به ومعرفته ونوره وهداه ، فظنوا أن ذلك نفس ذات الرب ،
[ ص: 511 ] وقد قال الله تعالى :
وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ، وهو ما في قلوب الملائكة وأنبيائه وعباده المؤمنين من الإيمان به ومعرفته ومحبته وإجلاله وتعظيمه ، وهو نظير قوله تعالى :
فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وقوله تعالى :
وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون وقوله تعالى :
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم ، فأولياء الله يعرفونه ويحبونه ، ويجلونه أن يقال هو ما في قلوبهم ، والمراد محبته ومعرفته والمثل الأعلى في قلوبهم لا نفس ذاته ، وهذا أمر تعتاده الناس في مخاطباتهم ومحاوراتهم ، يقول الإنسان لغيره : أنت في قلبي ولازلت في عيني كما قال القائل :
ومن عجب أني أحن إليهم وأسأل عنهم من لقيت ، وهم معي وتطلبهم عيني ، وهم في سوادهـا
ويشتاقهم قلبي ، وهم بين أضلعي
وقال آخر :
خيالك في عيني وذكرك في فمي ومثواك في عيني فأين تغيـب
وقال آخر في المعنى وأجاد :
إن قلـت غبـت فقلبي لا يصدقني إذ أنت فيــه فدتك النفس لم تــــــغـب
أو قلت ما غبت قال الطرف ذا كذب فقد تحيــرت بين الصدق والكـذب
وقال آخر : ( في المعنى مفرد )
[ ص: 512 ] أحـن إليـه وهو في القلب ساكن فيـا عجــبا لمن يحـن لقلبه
ومن غلظ طبعه ، وكشف فهمه عن فهم مثل هذا ، لم يكثر عليه أن يفهم من ألفاظ الكتب أن ذات الله سبحانه تحل في الصورة البشرية وتتحد بها وتمتزج بها ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .