صفحة جزء
( حدثنا عيسى بن أحمد ) ثقة أخرج حديثه الترمذي والنسائي ، ( حدثنا عبد الله بن وهب ) تقدم ( قال حدثني مالك بن أنس عن ابن شهاب ) وهو الزهري ( عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح ) أي سنة ثمان من الهجرة ( وعلى رأسه المغفر ) بلام التعريف في جميع النسخ المصححة والأصول المعتمدة .

وأما قول العصام وفي بعض الأصول " مغفر " فالله أعلم بصحته ، ثم الجمع بينه وبين الحديث الآتي أنه كان على رأسه عمامة سوداء - المخرج في مسلم - أن عقب دخوله نزع المغفر ، ثم لبس العمامة السوداء ، فخطب بها لرواية : " خطب الناس وعليه عمامة سوداء " أخرجه مسلم . والخطبة كانت عند باب الكعبة بعد تمام الفتح ، وهذا الجمع للقاضي عياض ، واختاره العراقي وفيه أن ظاهر الحديث يدل على أن العمامة كانت على رأسه حين دخوله مكة ، لا أنه لبسها بعد ذلك ; لأن زمان الحال يجب أن يكون متحدا مع زمان عامله ، اللهم إلا أن يقصد الاتساع في زمان دخول مكة والله أعلم .

وقيل : إن سواد عمامته لم يكن أصليا بل لما كان المغفر [ ص: 202 ] فوق العمامة في الأيام الحارة ، وكانت العمامة متسخة ومتلونة بسببه ، ولما رفع المغفر عنها ظن الراوي أنها سوداء ، ويدل عليه رواية دخل مكة وعليه عصابة دسماء ، وهذا أظهر في الجمع من الجميع ، والله أعلم .

وأما قول ابن حجر من اقتصر على المغفر بين أنه دخل متأهبا للقتال ، ومن اقتصر على العمامة بين أنه دخل غير محرم فجمع غريب من وجهين أحدهما : أن لبس أحدهما لا يدل على عدم إحرامه ; لأن الإحرام بالنية واللبس جائز للضرورة ، والثاني أن لبس المغفر يكفي للدلالتين على زعمه ، فلا يحتاج إلى ذكر العمامة على أنا نقول بفرض صحة عدم إحرامه ، أن سببه كونه صلى الله عليه وسلم مترددا بين حصول تمكنه من الدخول في أرض الحرم ، وبين عدم الدخول إليه بسبب منع الأعداء ، فكان قصده الأول إنما هو قرب الحرم ; لينظر فيه كيف الأمر أله الغلبة أم لا ، فحينئذ جاوز الميقات بغير إحرام ثم دخل مكة بغير نسك على ما هو مقتضى مذهبنا من الأفاقي ، إذا قصد بستان بني عامر له المجاوزة من الميقات بغير إحرام ثم دخوله مكة باختياره محرما أو غير محرم ، قال ميرك : وزعم بعض أهل السير أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم مغفران يقال لأحدهما الموشح ، وللآخر لسوع ، وقال بعضهم : كان له بيضة ، وكان في رأسه يوم أحد ، واعلم أن ابن بطال ذكر أن بعضهم أنكروا على مالك قوله وعليه مغفر ، وأنه تفرد به والمحفوظ في سائر الطرق أنه دخل مكة وعليه عمامة سوداء ، وتعقب بأن العلماء وجدوا بضعة عشر نفرا غير مالك تابعوه في ذكر المغفر ، وتقدم الجمع بينهما ( قال ) أي أنس ، وإنما قال الزهري : قال لطول كلامه أو لأنه سمعه في وقت آخر منه ، وأما قول ابن حجر : فاعل قال هو ابن شهاب ، كما هو ظاهر السياق لا الترمذي حتى يحكم على الحديث بأنه معلق ، فمدفوع بأن السياق المطابق للسياق أنه من كلام أنس ، مع أنه إذا كان من كلام ابن شهاب يحكم على الحديث بأنه مرسل ( فلما نزعه ) أي نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغفر ونحاه عن رأسه ( جاءه رجل ) قيل : هو أبو برزة الأسلمي ( فقال ) أي الرجل ( ابن خطل متعلق بأستار الكعبة ) مبتدأ وخبر ( فقال ) أي النبي صلى الله عليه وسلم ( اقتلوه ) أي أنت وأصحابك ففيه نوع من التغليب أو الالتفات ، ويؤيد الأول رواية : " اقتله " ( قال ابن شهاب ) أي الزهري قال ميرك : هو موصول بالإسناد المتقدم ، وليس بمعلق لما وقع في الموطأ من رواية أبي مصعب وغيره ، قال مالك : قال ابن شهاب : ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرما ( وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يومئذ محرما ) أي على صورة المحرم ; لأنه كان لابسا لبس الحلال ، والله أعلم بالحال . وقد خالف الحنفي مذهبه حيث قال : فيه دليل على جواز دخولها إذا لم يرد نسكا انتهى . قال ميرك : أخرجه البخاري من طريق يحيى بن قزعة عن مالك بهذا الإسناد ، ولفظه : " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح " الحديث ، وقال : اقتله ، وقال في آخره : قال مالك : ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نرى والله أعلم محرما ، وأخرجه البخاري أيضا من طريق عبد الله بن يوسف عن مالك ، وقال : اقتلوه بصيغة الجمع كما هنا انتهى . والجمع أنه قال له اقتله [ ص: 203 ] ولما علم أن قتله وحده صعب ، قال اقتلوه ; ولهذا تبادروا إلى قتله ، ثم في قول مالك ، ولم يكن فيما نرى محرما دليل على أن هذا القول بمقتضى ظنه لأمر خارج من غير أن يكون مستدلا بلبس المغفر ، كما سبق تحقيقه وعليه يحمل قول جابر في رواية مسلم ، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ، وعليه عمامة سوداء بغير إحرام .

ثم اعلم أن دخول الحرم في حق غير الخائف المتأهب للقتال بغير إحرام لا يجوز عندنا ، وعليه الجمهور خلافا للشافعية على الأصح عندهم ، وقيل : الإحرام واجب إن لم تتكرر حاجته ، ونقل عن أكثر العلماء ، قال ميرك : وقد اختلف العلماء في من دخل مكة بغير قصد حج أو عمرة ، هل يجب عليه الإحرام ، فالمشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقا أي سواء دخل لحاجة تتكرر كحطاب وخشاش وصياد ونحوهم ، أو لا تتكرر كتجارة وزيارة ونحوهما ، وهو الصحيح وفي قول ضعيف تجب مطلقا ، والمشهور عن الأئمة الثلاثة الوجوب ، وفي رواية عن كل منهم لا يجب ، وهو قول ابن عمر والزهري ، والحسن وأهل الظاهر ، وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة ، واستثنى الحنفية من كان داخل الميقات ، وقال ابن عبد البر : إن أكثر الصحابة والتابعين على القول بالوجوب ، وأما قول الطحاوي : إن دخوله صلى الله عليه وسلم مكة غير محرم من خصائصه ، ودليله : قوله صلى الله عليه وسلم أنها لم تحل لي إلا ساعة من نهار ، وأن المراد بذلك جواز دخولها بغير إحرام لا تحريم القتال فيها ; لأنهم أجمعوا على أن المشركين لو غلبوا والعياذ بالله تعالى على مكة حل للمسلمين القتال معهم فيها ، فقد عكس استدلاله النووي ، فقال : في الحديث دلالة على أن مكة تبقى دار إسلام إلى يوم القيامة ، فبطل ما صوره الطحاوي على أن في دعوى الإجماع نظرا ، فإن الخلاف ثابت وقد حكاه القفال والماوردي وغيرهما قلت : ما صوره الطحاوي فرضي غير لازم الوقوع ; ولذا خالف من خالف ، وأما دعوى الإجماع فصحيحة ، ولا ينافيها مخالفة القفال وغيره ، فبطل إبطاله والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية