الفصل السادس عشر : في القول في
عصمة الملائكة
أجمع المسلمون على أن
الملائكة مؤمنون فضلاء ، واتفق أئمة المسلمين أن
حكم المرسلين منهم حكم النبيين سواء في العصمة مما ذكرنا عصمتهم منه ، وأنهم في حقوق الأنبياء ، والتبليغ إليهم كالأنبياء مع الأمم .
واختلفوا في غير المرسلين منهم ، فذهبت طائفة إلى عصمة جميعهم عن المعاصي ، واحتجوا بقوله - تعالى - :
لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ التحريم : 6 ] . وبقوله :
وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون [ الصافات : 164 - 166 ] . وبقوله :
ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون [ الأنبياء : 19 - 20 ] . وبقوله :
إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته [ الأعراف : 206 ] الآية . وبقوله :
كرام بررة [ عبس : 16 ] ، و
لا يمسه إلا المطهرون [ الواقعة : 79 ] ، ونحوه من السمعيات .
وذهبت طائفة إلى أن هذا خصوص للمرسلين منهم ، والمقربين . واحتجوا بأشياء ذكرها أهل الأخبار والتفاسير ، نحن نذكرها إن شاء الله بعد ونبين الوجه فيها إن شاء الله .
والصواب عصمة جميعهم وتنزيه نصابهم الرفيع عن جميع ما يحط من رتبتهم ، ومنزلتهم عن جليل مقدارهم .
ورأيت بعض شيوخنا أشار أن لا حاجة بالفقيه إلى الكلام في عصمتهم ، وأنا أقول : إن للكلام في ذلك ما للكلام في عصمة الأنبياء من الفوائد التي ذكرناها سوى فائدة الكلام في الأقوال والأفعال ، فهي ساقطة هاهنا .
فمما احتج به من لم يوجب عصمة جميعهم قصة
هاروت وماروت ، وما ذكر فيها أهل الأخبار ، ونقلة المفسرين ، وما روي عن
علي ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس في خبرهما
[ ص: 510 ] وابتلائهما .
فاعلم أكرمك الله أن هذه الأخبار لم يرو منها شيء لا سقيم ، ولا صحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليس هو شيئا يؤخذ بقياس .
والذي منه في القرآن اختلف المفسرون في معناه ، وأنكر ما قال بعضهم فيه كثير من السلف كما سنذكره . وهذه الأخبار من كتب اليهود ، وافترائهم ، كما نصه الله أول الآيات من افترائهم بذلك على
سليمان وتكفيرهم إياه .
وقد انطوت القصة على شنع عظيمة . وها نحن نخبر في ذلك ما يكشف غطاء هذه الإشكالات إن شاء الله :
فاختلف أولا في
هاروت وماروت ، هل هما ملكان أو إنسيان ؟ ، وهل هما المراد بالملكين أم لا ؟ ، وهل القراءة ملكين أو ملكين ؟ ، وهل ما في قوله :
وما أنزل [ البقرة : 102 ] .
وما يعلمان من أحد [ البقرة : 102 ] نافية أو موجبة ! .
فأكثر المفسرين أن الله - تعالى - امتحن الناس بالملكين لتعليم السحر وتبيينه ، وأن عمله كفر ، فمن تعلمه كفر ، ومن تركه آمن . قال الله - تعالى - :
إنما نحن فتنة فلا تكفر [ البقرة : 102 ] ، وتعليمهما الناس له تعليم إنذار ، أي يقولان لمن جاء يطلب تعلمه : لا تفعلوا كذا : فإنه يفرق بين المرء وزوجه ، ولا تتخيلوا بكذا ، فإنه سحر ، فلا تكفروا .
فعلى هذا فعل الملكين طاعة ، وتصرفهما فيما أمرا به ليس بمعصية ، وهي لغيرهما فتنة .
وروى
ابن وهب ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15790خالد بن أبي عمران أنه ذكر عنده
هاروت وماروت ، وأنهما يعلمان السحر ، فقال : نحن ننزههما عن هذا .
فقرأ بعضهم :
وما أنزل على الملكين [ البقرة : 102 ] . فقال
خالد : لم ينزل عليهما .
فهذا
خالد على جلالته ، وعلمه نزههما عن تعليم السحر الذي قد ذكر غيره أنهما مأذون لهما في تعليمه بشريطة أن يبينا أنه كفر ، وأنه امتحان من الله ، وابتلاء ، فكيف لا ينزههما عن كبائر المعاصي والكفر المذكورة في تلك الأخبار .
وقول
خالد : لم ينزل : يريد أن ما نافية ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=17140مكي : وتقدير الكلام : وما كفر
سليمان يريد بالسحر الذي افتعلته الشياطين ، فاتبعتهم في ذلك اليهود ، وما أنزل على الملكين ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=17140مكي : هما
جبريل وميكائيل :
ادعى اليهود عليهما المجيء به ، كما ادعوا على
سليمان فأكذبهم الله في ذلك .
ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر [ البقرة : 102 ] ببابل
هاروت وماروت قيل : هما رجلان تعلماه .
قال
الحسن :
هاروت وماروت علجان من أهل بابل ، وقرأ :
وما أنزل على الملكين [ البقرة : 102 ] بكسر اللام ، وتكون [ ما ] إيجابا على هذا .
وكذلك قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=396عبد الرحمن بن أبزى بكسر اللام ، ولكنه قال : الملكان
[ ص: 511 ] هنا
داود وسليمان وتكون [ ما ] نفيا على ما تقدم .
وقيل : كانا ملكين من بني إسرائيل ، فمسخهما الله ، حكاه
السمرقندي .
والقراءة بكسر اللام شاذة ، فمحمل الآية على تقدير
أبي محمد مكي حسن ينزه الملائكة ، ويذهب الرجس عنهم ، ويطهرهم تطهيرا .
وقد وصفهم الله بأنهم مطهرون ، وكرام بررة ، ولا يعصون الله ما أمرهم .
ومما يذكرونه
قصة إبليس ، وأنه كان من الملائكة ، ورئيسا فيهم ، ومن خزان الجنة . . . إلى آخر ما حكوه ، وأنه استثناه من الملائكة بقوله :
فسجدوا إلا إبليس [ البقرة : 34 ]
وهذا أيضا لم يتفق عليه ، بل الأكثر ينفون ذلك ، وأنه أبو الجن ، كما أن
آدم أبو الإنس ، وهو قول
الحسن ،
وقتادة ،
وابن زيد .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16128شهر بن حوشب : كان من الجن الذين طردتهم الملائكة في الأرض حين أفسدوا ، والاستثناء من غير الجنس شائع في كلام العرب سائغ ، وقد قال الله - تعالى - :
ما لهم به من علم إلا اتباع الظن [ النساء : 157 ] .
ومما رووه من الأخبار أن خلقا من الملائكة عصوا الله فحرقوا ، وأمروا أن يسجدوا
لآدم فأبوا فحرقوا ، ثم آخرون كذلك ، حتى سجد له من ذكر الله إلا إبليس ، في أخبار لا أصل لها تردها صحاح الأخبار ، فلا يشتغل بها . والله أعلم .