صفحة جزء
الفصل التاسع : حكم المرض ، والابتلاء له - صلى الله عليه وسلم -

فإن قيل : فما الحكمة في إجراء الأمراض ، وشدتها عليه ، وعلى غيره من الأنبياء - على [ ص: 532 ] جميعهم السلام - ؟ وما الوجه فيما ابتلاهم الله به من البلاء ، وامتحانهم بما امتحنوا به كأيوب ، ويعقوب ، ودانيال ، ويحيى ، وزكريا ، وعيسى ، وإبراهيم ، ويوسف ، وغيرهم ، - صلوات الله عليهم - ، وهم خيرته من خلقه ، وأحباؤه ، وأصفياؤه .

فاعلم وفقنا الله ، وإياك أن أفعال الله - تعالى - كلها عدل ، وكلماته جميعها صدق لا مبدل لكلماته ، يبتلي عباده كما قال - تعالى - لهم : لننظر كيف تعملون و على الماء ليبلوكم أيكم [ هود : 7 ] .

وليعلم الله الذين آمنوا [ آل عمران : 140 ] .

ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين [ آل عمران : 142 ] .

ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم [ محمد : 31 ] .

فامتحانه إياهم بضروب المحن زيادة في مكانتهم ، ورفعة في درجاتهم ، وأسباب لاستخراج حالات الصبر ، والرضى ، والشكر ، والتسليم ، والتوكل ، والتفويض ، والدعاء ، والتضرع منهم ، وتأكيد لبصائرهم في رحمة الممتحنين ، والشفقة على المبتلين ، وتذكرة لغيرهم ، وموعظة لسواهم ليتأسوا في البلاء بهم ، ويتسلوا في المحن بما جرى عليهم ، ويقتدوا بهم في الصبر ، ومحو لهنات فرطت منهم ، أو غفلات سلفت لهم ، ليلقوا الله طيبين مهذبين ، وليكون أجرهم أكمل ، وثوابهم أوفر ، وأجزل .

[ حدثنا القاضي أبو علي الحافظ ، حدثنا أبو الحسين الصيرفي وأبو الفضل بن خيرون ، قالا : حدثنا أبو يعلى البغدادي ، حدثنا أبو علي السنجي ، حدثنا محمد بن محبوب ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا قتيبة ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عاصم بن بهدلة ] ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه قال : قلت يا رسول الله ، أي الناس أشد بلاء ؟ قال : الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ، وما عليه خطيئة .

وكما قال - تعالى - : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير [ آل عمران : 146 ] الآيات الثلاث .

وعن أبي هريرة : ما يزال البلاء بالمؤمن في نفسه ، وولده ، وماله حتى يلقى الله ، وما عليه خطيئة .

وعن أنس ، عنه - صلى الله عليه وسلم - : إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد الله بعبده الشر [ ص: 533 ] أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة .

وفي حديث آخر : إذا أحب الله عبدا ابتلاه ليسمع تضرعه .

وحكى السمرقندي أن كل من كان أكرم على الله - تعالى - كان بلاؤه أشد كي يتبين فضله ، ويستوجب الثواب ، كما روي عن لقمان أنه قال : يا بني ، الذهب والفضة يختبران بالنار ، والمؤمن يختبر بالبلاء .

وقد حكي أن ابتلاء يعقوب بيوسف كان سببه التفاته في صلواته إليه ، ويوسف نائم محبة له .

وقيل : بل اجتمع يوما هو وابنه يوسف على أكل حمل مشوي ، وهما يضحكان وكان لهم جار يتيم ، فشم ريحه ، واشتهاه ، وبكى ، وبكت له جدة له عجوز لبكائه ، وبينهما جدار ، ولا علم عند يعقوب ، وابنه ، فعوقب يعقوب بالبكاء أسفا على يوسف إلى أن سالت حدقتاه ، وابيضت عيناه من الحزن . فلما علم بذلك كان بقية حياته يأمر مناديا ينادي على سطحه : ألا من كان مفطرا فليتغذ عند آل يعقوب . وعوقب يوسف بالمحنة التي نص الله عليها . وروي عن الليث أن سبب بلاء أيوب أنه دخل مع أهل قريته على ملكهم فكلموه في ظلمه ، وأغلظوا له إلا أيوب ، فإنه رفق به مخافة على زرعه ، فعاقبه الله ببلائه .

ومحنة سليمان لما ذكرناه من نيته في كون الحق في جنبة أصهاره ، أو للعمل بالمعصية في داره ، ولا علم عنده .

وهذه فائدة شدة المرض والوجع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، قالت عائشة : ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وعن عبد الله : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه ، يوعك وعكا شديدا ، قال : أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم . قلت : ذلك أن الأجر مرتين ، قال : أجل ، ذلك كذلك .

وفي حديث أبي سعيد أن رجلا ، وضع يده على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : والله ما أطيق أضع يدي عليك من شدة حماك . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء ، إن كان [ ص: 534 ] النبي ليبتلى بالقمل حتى يقتله ، وإن كان النبي ليبتلى بالفقر ، وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء .

وعن أنس ، عنه - صلى الله عليه وسلم - : إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضى ، ومن سخط فله السخط .

وقد قال المفسرون في قوله - تعالى - : من يعمل سوءا يجز به [ النساء : 123 ] ، إن المسلم يجزى بمصائب الدنيا فتكون له كفارة . وروي هذا عن عائشة ، وأبي ، ومجاهد .

وقال أبو هريرة ، عنه - صلى الله عليه وسلم - : من يرد الله به خيرا يصب منه .

وقال في رواية عائشة : ما من مصيبة تصيب المسلم إلا يكفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها .

وقال في رواية أبي سعيد : ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب وقيل : ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه .

وفي حديث ابن مسعود : ما من مسلم يصيبه أذى إلا حات الله عنه خطاياه كما يحت ورق الشجر .

وحكمة أخرى أودعها الله في الأمراض لأجسامهم ، وتعاقب الأوجاع ، وشدتها عند [ ص: 535 ] مماتهم ، لتضعف قوى نفوسهم ، فيسهل خروجها عند قبضهم ، وتخف عليهم مونة النزع ، وشدة السكرات بتقدم المرض ، وضعف الجسم والنفس لذلك .

خلاف موت الفجأة ، وأخذه ، كما يشاهد من اختلاف أحوال الموتى في الشدة ، واللين ، والصعوبة ، والسهولة . وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : مثل المؤمن مثل خامة الزرع تفيئها الريح هكذا وهكذا .

وفي رواية أبي هريرة عنه : من حيث أتتها الريح تكفؤها ، فإذا سكنت اعتدلت ، وكذلك المؤمن يكفأ بالبلاء . ومثل الكافر كمثل الأرزة صماء معتدلة حتى يقصمه الله .

معناه أن المؤمن مرزء مصاب بالبلاء والأمراض ، راض بتصريفه بين أقدار الله - تعالى - ، منطاع لذلك ، لين الجانب برضاه ، وقلة سخطه ، كطاعة خامة الزرع ، وانقيادها للرياح ، وتمايلها لهبوبها ، وترنحها من حيث ما أتتها ، فإذا أزاح الله عن المؤمن رياح البلايا ، واعتدل صحيحا كما اعتدلت خامة الزرع عند سكون رياح الجو رجع إلى شكر ربه ومعرفة نعمته عليه برفع بلائه ، منتظرا رحمته ، وثوابه عليه .

فإذا كان بهذه السبيل لم يصعب عليه مرض الموت ، ولا نزوله ، ولا اشتدت عليه سكراته ونزعه لعادته بما تقدم من الآلام ، ومعرفة ما له فيها من الأجر ، وتوطينه نفسه على المصائب ، ورقتها ، وضعفها بتوالي المرض أو شدته ، والكافر بخلاف هذا ، معافى في غالب حاله ، ممتع بصحة جسمه ، كالأرزة الصماء ، حتى إذا أراد الله هلاكه قصمه لحينه على غرة ، وأخذه بغتة من غير لطف ولا رفق ، فكان موته أشد عليه حسرة ، ومقاساة نزعه مع قوة نفسه ، وصحة جسمه أشد ألما وعذابا ، ولعذاب الآخرة أشد ، كانجعاف الأرزة . وكما قال - تعالى - : فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ الأعراف : 95 ] .

وكذلك عادة الله - تعالى - في أعدائه ، كما قال - تعالى - : فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة [ العنكبوت : 40 ] الآية . ففجأ جميعهم بالموت على حال عتو وغفلة ، وصبحهم به على غير استعداد بغتة ، ولهذا ذكر عن السلف أنهم كانوا يكرهون موت الفجأة .

ومنه في حديث إبراهيم : كانوا يكرهون أخذة كأخذة الأسف : أي الغضب ، يريد موت الفجأة .

وحكمة ثالثة أن الأمراض نذير الممات ، وبقدر شدتها شدة الخوف من نزول الموت ، فيستعد من أصابته ، وعلم تعاهدها له ، للقاء ربه ، ويعرض عن دار الدنيا الكثيرة الأنكاد ، ويكون قلبه [ ص: 536 ] معلقا بالمعاد ، فيتنصل من كل ما يخشى تباعته من قبل الله ، وقبل العباد ، ويؤدي الحقوق إلى أهلها ، وينظر فيما يحتاج إليه من وصية فيمن يخلفه أو أمر يعهده .

وهذا نبينا - صلى الله عليه وسلم - المغفور له ما تقدم وما تأخر ، قد طلب التنصل في مرضه ممن كان له عليه مال أو حق في بدن ، وأقاد من نفسه ، وماله ، وأمكن من القصاص منه ، على ما ورد في حديث الفضل ، وحديث الوفاة ، وأوصى بالثقلين بعده : كتاب الله ، وعترته ، وبالأنصار عيبته ، ودعا إلى كتب كتاب لئلا تضل أمته بعده ، إما في النص على الخلافة ، أو الله أعلم بمراده . ثم رأى الإمساك عنه أفضل وخيرا .

وهكذا سيرة عباد الله المؤمنين ، وأوليائه المتقين .

وهذا كله يحرمه غالبا الكفار ، لإملاء الله لهم ، ليزدادوا إثما ، وليستدرجهم من حيث لا يعلمون ، قال الله - تعالى - : ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون [ يس : 49 - 50 ] .

ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في رجل مات فجأة : سبحان الله ! كأنه على غضب ، المحروم من حرم وصيته . وقال : موت الفجأة راحة للمؤمن وأخذة أسف للكافر والفاجر وذلك لأن الموت يأتي المؤمن وهو غالبا مستعد له منتظر لحلوله ، فهان أمره عليه كيفما جاء ، وأفضى إلى راحته من نصب الدنيا وأذاها ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : مستريح ، ومستراح منه . وتأتي الكافر والفاجر منيته على غير استعداد ولا أهبة ولا مقدمات منذرة مزعجة ، بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون [ الأنبياء : 40 ] فكان الموت أشد شيء عليه . وفراق الدنيا أفظع أمر صدمه ، وأكره شيء له ، وإلى هذا المعنى أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه .

التالي السابق


الخدمات العلمية