فصل أصل ذلك كله هو
الفرق بين محبة الله ورضاه ، ومشيئته وإرادته الكونية ، ومنشأ الضلال في هذا الباب من التسوية بينهما ، أو اعتقاد تلازمهما ، فسوى بينهما
الجبرية والقدرية ، وقالوا : المشيئة والمحبة سواء ، أو متلازمان .
ثم اختلفوا ، فقالت
الجبرية : الكون كله - قضاؤه وقدره ، طاعته ومعاصيه ، خيره وشره - فهو محبوبه .
ثم من تعبد منهم ، وسلك على هذا الاعتقاد رأى أن الأفعال جميعها محبوبة للرب ، إذ هي صادرة عن مشيئته ، وهي عين محبته ورضاه ، وفني في هذا الشهود الذي كان اعتقادا ، ثم صار مشهدا ، فلزم من ذلك ما تقدم ، من أنه لا يستقبح سيئة ، ولا يستنكر منكرا ، وتلك اللوازم الباطلة المنافية للشرائع جملة .
ولما ورد على هؤلاء قوله تعالى
والله لا يحب الفساد ،
ولا يرضى لعباده الكفر وقوله :
كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها واعتاص عليهم كيف يكون مكروها له ، وقد أراد كونه ؟ وكيف لا يحبه ، وقد أراد وجوده ؟ أولوا هذه الآيات ونحوها بأنه لا يحبها دينا ، ولا يرضاها شرعا ، ويكرهها كذلك ، بمعنى أنه لا يشرعها ، مع كونه يحب وجودها ويريده .
فشهدوا في مقام الفناء كونها محبوبة الوجود ، ورأوا أن المحبة تقتضي موافقة المحبوب فيما يحبه ، والكون كله محبوبه ، فأحبوا - بزعمهم - جميع ما في الكون ، وكذبوا وتناقضوا ، فإنما أحبوا ما تهواه نفوسهم وإرادتهم ، فإذا كان في الكون ما لا يلائم أحدهم ويكرهه طبعه أبغضه ، ونفر منه وكرهه ، مع كونه مرادا للمحبوب ، فأين الموافقة ؟ وإنما وافقوا أهواءهم وإراداتهم .
[ ص: 265 ] ثم بنوا على ذلك أنهم مأمورون بالرضاء بالقضاء ، وهذه قضاء من قضائه ، فنحن نرضى بها ، فما لنا ولإنكارها ومعاداة فاعلها ، ونحن مأمورون بالرضا بالقضاء ؟ فتركب من اعتقادهم كونها محبوبة للرب ، وكونهم مأمورين بالرضا بها ، والتسوية بين الأفعال ، وعدم استقباح شيء منها أو إنكاره .
وانضاف إلى ذلك اعتقادهم جبر العبد عليها ، وأنها ليست فعله .
فلزم من ذلك رفع الأمر والنهي ، وطي بساط الشرع ، والاستسلام للقدر ، والذهاب معه حيث كان ، وصارت لهم هذه العقائد مشاهد ، وكل أحد إذا ارتاض وصفا باطنه تجلى له فيه صورة معتقده ، فهو يشاهدها بقلبه فيظنها حقا ، فهذا حال هذه الطائفة .
وقالت
القدرية النفاة : ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له ، فليست مقدرة له ولا مقضية ، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه .
قالوا : ونحن مأمورون بالرضا بالقضاء ، ومأمورون بسخط هذه الأفعال وبغضها وكراهتها ، فليست إذا بقضاء الله ، إذ الرضا والقضاء متلازمان ، كما أن محبته ومشيئته متلازمان ، أو متحدان .
وهؤلاء لا يجيء من سالكيهم وعبادهم ما جاء من سالكي
الجبرية وعبادهم البتة ، لمنافاة عقائدهم لمشاهد أولئك وعقائدهم ، بل غايتهم التعبد والورع ، وهم في تعظيم الذنوب والمعاصي خير من أولئك ، وأولئك قد يكونون أقوى حالا وتأثيرا منهم .
فمنشأ الغلط التسوية بين المشيئة والمحبة ، واعتقادهم وجوب الرضا بالقضاء ، ونحن نبين ما في الفصلين إن شاء الله تعالى ، فإن القوة لله جميعا .