فصل
وأما حديث
الرضا بالقضاء فيقال :
أولا : بأي كتاب ، أم بأي سنة ، أم بأي معقول علمتم وجوب الرضا بكل ما يقضيه ويقدره ؟ بل بجواز ذلك ، فضلا عن وجوبه ؟ هذا كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأدلة العقول ، ليس في شيء منها الأمر بذلك ، ولا إباحته .
بل من المقضي ما يرضى به ، ومنه ما يسخطه ويمقته ، فلا نرضى بكل قضاء كما لا يرضى به القاضي لأقضيته سبحانه ، بل من القضاء ما يسخطه ، كما أن من الأعيان المقضية ما يغضب عليه ، ويمقت عليه ، ويلعن ويذم .
ويقال ثانيا : هاهنا أمران قضاء وهو فعل قائم بذات الرب تعالى ، ومقضي وهو المفعول المنفصل عنه ، فالقضاء خير كله ، وعدل وحكمة ، فيرضى به كله ، والمقضي
[ ص: 269 ] قسمان : منه ما يرضى به ، ومنه ما لا يرضى به .
وهذا جواب من يقول : الفعل غير المفعول ، والقضاء غير المقضي .
وأما من يقول : إن الفعل هو عين المفعول ، والقضاء هو عين المقضي ، فلا يمكنه أن يجيب بهذا الجواب .
ويقال ثالثا : القضاء له وجهان :
أحدهما : تعلقه بالرب تعالى ، ونسبته إليه ، فمن هذا الوجه يرضى به كله .
الوجه الثاني : تعلقه بالعبد ونسبته إليه فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به ، وإلى ما لا يرضى به .
مثال ذلك : قتل النفس - مثلا - له اعتباران ، فمن حيث إنه قدره الله وقضاه وكتبه وشاءه ، وجعله أجلا للمقتول ، ونهاية لعمره يرضى به ، ومن حيث إنه صدر من القاتل ، وباشره وكسبه ، وأقدم عليه باختياره ، وعصى الله بفعله يسخطه ولا يرضى به .
فهذه نهاية أقدام العالم ، المقرين بالنبوات في هذه المسألة ، ومفترق طرقهم ، قد حصرت لك أقوالهم ومآخذهم ، وأصول تلك الأقوال ، بحيث لا يشذ منها شيء ، وبالله التوفيق .
ولا تنكر الإطالة في هذا الموضع ، فإنه مزلة أقدام الخلق ، وما نجا من معاطبه إلا أهل البصائر والمعرفة بالله وصفاته وأمره وشرائعه .