مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل وهذه الطريقة في الإرادة والطلب نظير طريقة التجهم في العلم والمعرفة ، تلك تعطيل للصفات والتوحيد ، وهذه تعطيل للأمر والعبودية ، وانظر إلى هذا النسب والإخاء الذي بينهما ، كيف شرك بينهما في اللفظ ، كما شرك بينهما في المعنى ؟ فتلك طريقة النفي ، وهذه طريقة الفناء ، تلك نفي لصفات المعبود ، وهذه فناء عن عبوديته .

وأما نفي خواص العبيد وفناؤهم فأمر وراء نفي أولئك وفنائهم ، لأن نفيهم لصفات النقائص ، وما يضاد أوصاف الكمال ، وفناءهم عن إرادة غيره ومحبته ، وخوفه ورجائه ، ففناؤهم عن كل ما يخالف أمره ومحابه ، ونفيهم لكل ما يضاد كماله وجلاله ، ومن له فرقان فهو يعرف هذا وهذا ، وغيره لا اعتبار به .

وصاحب المنازل - رحمه الله - كان شديد الإثبات للأسماء والصفات ، مضادا للجهمية من كل وجه ، وله كتاب الفاروق استوعب فيه أحاديث الصفات وآثارها ، ولم يسبق إلى مثله ، وكتاب ذم الكلام وأهله طريقته فيه أحسن طريقة ، وكتاب لطيف في أصول الدين ، يسلك فيه طريقة أهل الإثبات ويقررها ، وله مع الجهمية المقامات المشهودة ، وسعوا بقتله إلى السلطان مرارا عديدة ، والله يعصمه منهم ، ورموه بالتشبيه والتجسيم ، على عادة بهت الجهمية والمعتزلة لأهل السنة والحديث ، الذين لم يتحيزوا إلى مقالة غير ما دل عليه الكتاب والسنة .

ولكنه - رحمه الله - كانت طريقته في السلوك مضادة لطريقته في الأسماء والصفات ، فإنه لا يقدم على الفناء شيئا ، ويراه الغاية التي يشمر إليها السالكون ، والعلم الذي يؤمه السائرون ، واستولى عليه ذوق الفناء وشهود الجمع ، وعظم موقعه عنده ، واتسعت إشاراته إليه ، وتنوعت به الطرق الموصلة إليه ، علما وحالا وذوقا ، فتضمن ذلك تعطيلا من العبودية ، باديا على صفحات كلامه . وزان تعطيل الجهمية لما اقتضته أصولهم من نفي الصفات .

[ ص: 276 ] ولما اجتمع التعطيلان لمن اجتمعا له - من السالكين - تولد منهما القول بوحدة الوجود ، المتضمن لإنكار الصانع وصفاته ، وعبوديته ، وعصم الله أبا إسماعيل باعتصامه بطريقة السلف في إثبات الصفات ، فأشرف من عقبة الفناء على وادي الاتحاد بأرض الحلول ، فلم يسلك فيها ، ولوقوفه على عقبته ، وإشرافه على تلك الربوع الخراب ، ودعوة الخلق إلى الوقوف على تلك العقبة ، أقسمت الاتحادية بالله جهد أيمانهم إنه لمعهم ، ومنهم ، وحاشاه .

وتولى شرح كتابه أشدهم في الاتحاد طريقة ، وأعظمهم فيه مبالغة وعنادا لأهل الفرق العفيف التلمساني ونزل الجمع الذي يشير إليه صاحب المنازل على جمع الوجود ، وهو لم يرد به - حيث ذكره - إلا جمع الشهود ، ولكن الألفاظ مجملة ، وصادفت قلبا مشحونا بالاتحاد ، ولسانا فصيحا متمكنا من التعبير عن المراد ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .

التالي السابق


الخدمات العلمية