فصل قال صاحب المنازل : ولا يتم مقام التوبة إلا بالانتهاء إلى التوبة مما دون الحق ، ثم رؤية علة التوبة ، ثم التوبة من رؤية تلك العلة .
التوبة مما دون الله أن يخرج العبد بقلبه عن إرادة ما سوى الله تعالى ، فيعبده وحده لا شريك له بأمره وباستعانته ، فيكون كله له وبه .
وهذا أمر لا يصح إلا لمن استولى عليه سلطان المحبة ، فامتلأ قلبه من الله محبة له وإجلالا وتعظيما ، وذلا وخضوعا وانكسارا بين يديه ، وافتقارا إليه .
فإذا صح له ذلك بقيت عليه عندهم بقية أخرى ، هي علة في توبته ، وهي شعوره بها ، ورؤيته لها ، وعدم فنائه عنها ، وذلك بالنسبة إلى مقامه وحاله ذنب ، فيتوب من هذه الرؤية .
فهاهنا ثلاثة أمور : توبته مما سوى الله ، ورؤيته هذه التوبة ، وهي علتها ، وتوبته من رؤية تلك الرؤية ، وهذا عند القوم الغاية التي لا شيء بعدها ، والنهاية التي لا تكون إلا لخاصة الخاصة ، ولعمر الله إن رؤية العبد فعله ، واحتجابه به عن ربه ، ومشاهدته له علة في طريقه موجبة للتوبة .
وأما رؤيته له واقعا بمنة الله وفضله ، وحوله وقوته وإعانته فهذا أكمل من غيبته عنه ، وهو أكمل من المقام الذي يشيرون إليه ، وأتم عبودية ، وأدعى للمحبة وشهود المنة ، إذ يستحيل شهود المنة على شيء لا شعور للشاهد به البتة .
[ ص: 281 ] والذي ساقهم إلى ذلك سلوك وادي الفناء في الشهود ، فلا يشهد مع الحق سببا ، ولا وسيلة ولا رسما البتة .
ونحن لا ننكر ذوق هذا المقام ، وأن السالك ينتهي إليه ، ويجد له حلاوة ووجدا ولذة لا يجدها لغيره البتة ، وإنما يطالب أربابه والمشمرون إليه بأمر وراءه ، وهو أن هذا هو الكمال ، وهو أكمل من حال من شهد أفعاله ورآها ، ورأى تفاصيلها مشاهدا لها ، صادرة عنه بمشيئة الله وإرادته ومعونته ، فشهد عبوديته مع شهود معبوده ، فكلاهما نقص ، والكمال : أن تشهد العبودية حاصلة بمنة المعبود وفضله ومشيئته ، فيجتمع لك الشهودان ، فإن غبت بأحدهما عن الآخر فالمقام مقام توبة ، وهل في الغيبة عن العبودية إلا هضم لها ؟ .
والواجب : أن يقع التحاكم في ذلك إلى الله ورسوله ، وإلى حقائق الإيمان دون الذوق ، فإننا لا ننكر ذوق هذه الحال ، وإنما ننكر كونها أكمل من غيرها ، فأين الإشارة في القرآن ، أو في السنة ، أو في كلام سادات العارفين من الصحابة ومن تبعهم إلى هذا الفناء ، وأنه هو الكمال ، وأن رؤية العبد لفعله بالله وحوله وفضله وشهوده له كذلك علة تجب التوبة منها ؟ .
وهذا القدر مما يصعب إنكاره على القوم جدا ، ويرمون منكره بأنه محجوب من أهل الفرق ، وأنه لم يصل إلى هذا المقام ، ولو وصل إليه لما أنكره ، وليس في شيء من ذلك حجة لتصحيح قولهم ، ولا جواب المطالبة ، فقد سألك هذا المحجوب عن مسألة شرعية ، وما ذكرتموه ليس بجواب لها .
ولعمر الله إنه يراكم محجوبين عن حال أعظم من هذه الحال ، ومقام أرفع منه ، وليس في مجرد الفناء والاستغراق في شهود القيومية ، وإسقاط الأسباب والعلل والحكم والوسائط كثير علم ، ولا معرفة ولا عبودية ، وهل المعرفة كل المعرفة ، والعبودية إلا شهود الأشياء على ما هي عليه ؟ والقرآن كله مملوء من دعاء العباد إلى التفكر في الآيات ، والنظر في أحوال المخلوقات ، ونظر الإنسان في نفسه وتفاصيل أحواله ، وأخص من ذلك نظره فيما قدم لغده ، ومطالعته لنعم الله عليه بالإيمان والتوفيق والهداية ، وتذكر ذلك والتفكر فيه ، وحمد الله وشكره عليه ، وهذا لا يحصل مع الفناء حتى عن رؤية الرؤية ، وشهود الشهود .
ثم إن هذا غير ممكن البتة ، فإنكم إذا جعلتم رؤيته لتوبته علة يتوب منها ، فإن رؤيته لتلك الرؤية أيضا علة توجب عليه توبة ، وهلم جرا ، فلا ينتهي الأمر إلا بسقوط
[ ص: 282 ] التمييز جملة ، والسكر والطمس المنافي للعبودية ، فضلا عن أن يكون غاية للعبودية .
فتأمل الآن تفاصيل
عبودية الصلاة ، كيف لا تتم إلا بشهود فعلك الذي متى غبت عنه كان ذلك نقصا في العبودية .
فإذا قال المصلي : وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ، فعبودية هذا القول أن يشهد وجهه ، وهو قصده وإرادته ، وأن يشهد حقيقته ، وهي إقباله على الله .
ثم إذا قال : إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، فعبودية هذا القول أن يشهد الصلاة والنسك المضافين إليه لله ، ولو غاب عنهما كان قد أضاف إلى الله بلسانه ما هو غائب عن استحضاره بقلبه ، فكيف يكون هذا أكمل وأعلى من حال من استحضر فعله وعبوديته ، وأضافهما إلى الله ، وشهد مع ذلك كونهما به ؟ فأين هذا من حال المستغرق الفاني المصطلم ، الذي قد غاب بمعبوده عن حقه ، وقد أخذ منه وغيب عنه ؟ .
نعم غاية هذا أن يكون معذورا ، أما أن يكون مقامه أعلى مقام وأجله فكلا .
وكذلك إذا قال في قراءته " إياك نعبد وإياك نستعين " فعبودية هذا القول فهم معنى العبادة والاستعانة ، واستحضارهما ، وتخصيصهما بالله ، ونفيهما عن غيره ، فهذا أكمل من قول ذلك بمجرد اللسان .
وكذلك إذا قال في ركوعه : اللهم لك ركعت ، وبك آمنت ، ولك أسلمت ، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي ، وما استقلت به قدمي فكيف يؤدي عبودية هذه الكلمات غائب عن فعله ، مستغرق في فنائه ؟ وهل يبقى غير أصوات جارية على لسانه ؟ ولولا العذر لم تكن هذه عبودية .
نعم ، رؤية هذه الأفعال والوقوف عندها ، والاحتجاب بها عن المنعم بها الموفق لها ، المان بها من أعظم العلل القواطع ، قال تعالى
يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين فالعارف غائب بمنة الله عليه في طاعته ، مع شهودها ورؤيتها ، والجاهل غائب بها عن رؤية منة الله ، والفاني غائب باستغراقه في الفناء وشهود القيومية عن شهودها ، وهو ناقص ، وقد جعل الله لكل شيء قدرا .