فصل ومن أحكامها : أن
العبد إذا تاب من الذنب فهل يرجع إلى ما كان عليه قبل الذنب من الدرجة التي حطه عنها الذنب ، أو لا يرجع إليها ؟ اختلف في ذلك .
فقالت طائفة : يرجع إلى درجته ، لأن
التوبة تجب الذنب بالكلية ، وتصيره كأن لم يكن ، والمقتضي لدرجته ما معه من الإيمان والعمل الصالح ، فعاد إليها بالتوبة .
قالوا : لأن التوبة حسنة عظيمة وعمل صالح ، فإذا كان ذنبه قد حطه عن درجته ، فحسنته بالتوبة رقته إليها ، وهذا كمن سقط في بئر ، وله صاحب شفيق ، أدلى إليه حبلا
[ ص: 302 ] تمسك به حتى رقي منه إلى موضعه ، فهكذا التوبة والعمل الصالح مثل هذا القرين الصالح ، والأخ الشفيق .
وقالت طائفة : لا يعود إلى درجته وحاله ، لأنه لم يكن في وقوف ، وإنما كان في صعود ، فبالذنب صار في نزول وهبوط ، فإذا تاب نقص عليه ذلك القدر الذي كان مستعدا به للترقي .
قالوا : ومثل هذا مثل رجلين سائرين على طريق سيرا واحدا ، ثم عرض لأحدهما ما رده على عقبه أو أوقفه ، وصاحبه سائر ، فإذا استقال هذا رجوعه ووقفته ، وسار بإثر صاحبه لم يلحقه أبدا ، لأنه كلما سار مرحلة تقدم ذاك أخرى .
قالوا : والأول يسير بقوة أعماله وإيمانه ، وكلما ازداد سيرا ازدادت قوته ، وذلك الواقف الذي رجع قد ضعفت قوة سيره وإيمانه بالوقوف والرجوع .
وسمعت شيخ الإسلام
ابن تيمية - رحمه الله - يحكي هذا الخلاف ، ثم قال : والصحيح أن من التائبين من لا يعود إلى درجته ، ومنهم من يعود إليها ، ومنهم من يعود إلى أعلى منها ، فيصير خيرا مما كان قبل الذنب ، وكان
داود بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة .
قال : وهذا بحسب حال التائب بعد توبته ، وجده وعزمه ، وحذره وتشميره فإن كان ذلك أعظم مما كان له قبل الذنب عاد خيرا مما كان وأعلى درجة ، وإن كان مثله عاد إلى مثل حاله ، وإن كان دونه لم يعد إلى درجته ، وكان منحطا عنها ، وهذا الذي ذكره هو فصل النزاع في هذه المسألة .
ويتبين هذا بمثلين مضروبين :
أحدهما : رجل مسافر سائر على الطريق بطمأنينة وأمن ، فهو يعدو مرة ويمشي أخرى ، ويستريح تارة وينام أخرى ، فبينا هو كذلك إذ عرض له في سيره ظل ظليل ، وماء بارد ومقيل ، وروضة مزهرة ، فدعته نفسه إلى النزول على تلك الأماكن ، فنزل عليها ، فوثب عليه منها عدو ، فأخذه وقيده وكتفه ومنعه عن السير ، فعاين الهلاك ، وظن أنه منقطع به ، وأنه رزق الوحوش والسباع ، وأنه قد حيل بينه وبين مقصده الذي يؤمه ، فبينا هو على ذلك تتقاذفه الظنون ، إذ وقف على رأسه والده الشفيق القادر ، فحل كتافه وقيوده ، وقال له : اركب الطريق واحذر هذا العدو ، فإنه على منازل الطريق لك بالمرصاد ، واعلم أنك ما دمت حاذرا منه ، متيقظا له لا يقدر عليك ، فإذا غفلت وثب عليك ، وأنا متقدمك إلى المنزل ، وفرط لك فاتبعني على الأثر .
[ ص: 303 ] فإن كان هذا السائر كيسا فطنا لبيبا ، حاضر الذهن والعقل ، استقبل سيره استقبالا آخر ، أقوى من الأول وأتم ، واشتد حذره ، وتأهب لهذا العدو ، وأعد له عدته ، فكان سيره الثاني أقوى من الأول ، وخيرا منه ، ووصوله إلى المنزل أسرع ، وإن غفل عن عدوه وعاد إلى مثل حاله الأول ، من غير زيادة ولا نقصان ولا قوة حذر ولا استعداد ، عاد كما كان ، وهو معرض لما عرض له أولا .
وإن أورثه ذلك توانيا في سيره وفتورا ، وتذكرا لطيب مقيله ، وحسن ذلك الروض وعذوبة مائه ، وتفيؤ ظلاله ، وسكونا بقلبه إليه لم يعد إلى مثل سيره ونقص عما كان .
المثل الثاني : عبد في صحة وعافية جسم ، عرض له مرض أوجب له حمية وشرب دواء وتحفظا من التخليط ، ونقص بذلك مادة ردية كانت منقصة لكمال قوته وصحته ، فعاد بعد المرض أقوى مما كان قبله ، كما قيل :
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
وإن أوجب له ذلك المرض ضعفا في القوة ، وتداركه بمثل ما نقص من قوته ، عاد إلى مثل ما كان .
وإن تداركه بدون ما نقص من قوته ، عاد إلى دون ما كان عليه من القوة .
وفي هذين المثلين كفاية لمن تدبرهما .
وقد ضرب لذلك مثل آخر برجل خرج من بيته يريد الصلاة في الصف الأول ، لا يلوي على شيء في طريقه ، فعرض له رجل من خلفه جبذ ثوبه وأوقفه قليلا ، يريد تعويقه عن الصلاة ، فله معه حالان :
أحدهما : أن يشتغل به حتى تفوته الصلاة ، فهذه حال غير التائب .
الثاني : أن يجاذبه على نفسه ، ويتفلت منه ، لئلا تفوته الصلاة .
ثم له بعد هذا التفلت ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يكون سيره جمزا ووثبا ، ليستدرك ما فاته بتلك الوقفة ، فربما استدركه وزاد عليه .
الثاني : أن يعود إلى مثل سيره .
الثالث : أن تورثه تلك الوقفة فتورا وتهاونا ، فيفوته فضيلة الصف الأول ، أو فضيلة الجماعة وأول الوقت ، فهكذا حال التائبين السائرين سواء .