فصل
[ ص: 304 ] ويتبين هذا بمسألة شريفة ، وهي أنه
هل المطيع الذي لم يعص خير من العاصي الذي تاب إلى الله توبة نصوحا ، أو هذا التائب أفضل منه ؟
اختلف في ذلك .
فطائفة رجحت من لم يعص على من عصى وتاب توبة نصوحا ، واحتجوا بوجوه :
أحدها : أن أكمل الخلق وأفضلهم أطوعهم لله ، وهذا الذي لم يعص أطوع ، فيكون أفضل .
الثاني : أن في زمن اشتغال العاصي بمعصيته يسبقه المطيع عدة مراحل إلى فوق ، فتكون درجته أعلى من درجته ، وغايته أنه إذا تاب استقبل سيره ليلحقه ، وذاك في سير آخر ، فأنى له بلحاقه ؟ فهما بمنزلة رجلين مشتركين في الكسب ، كلما كسب أحدهما شيئا كسب الآخر مثله ، فعمد أحدهما إلى كسبه فأضاعه ، وأمسك عن الكسب المستأنف ، والآخر مجد في الكسب ، فإذا أدركته حمية المنافسة ، وعاد إلى الكسب وجد صاحبه قد كسب في تلك المدة شيئا كثيرا ، فلا يكسب شيئا إلا كسب صاحبه نظيره ، فأنى له بمساواته ؟ .
الثالث : أن غاية التوبة أن تمحو عن هذا سيئاته ، ويصير بمنزلة من لم يعملها ، فيكون سعيه في مدة المعصية لا له ولا عليه ، فأين هذا السعي من سعي من هو كاسب رابح ؟ .
الرابع : أن الله يمقت على معاصيه ومخالفة أوامره ، ففي مدة اشتغال هذا بالذنوب كان حظه المقت ، وحظ المطيع الرضا ، فالله لم يزل عنه راضيا ، ولا ريب أن هذا خير ممن كان الله راضيا عنه ثم مقته ، ثم رضي عنه ، فإن الرضا المستمر خير من الذي تخلله المقت .
الخامس : أن
الذنب بمنزلة شرب السم ، والتوبة ترياقه ودواؤه ، والطاعة هي الصحة والعافية ، وصحة وعافية مستمرة خير من صحة تخللها مرض وشرب سم أفاق منه ، وربما أديا به إلى التلف أو المرض أبدا .
السادس : أن العاصي على خطر شديد ، فإنه دائر بين ثلاثة أشياء ، أحدها : العطب والهلاك بشرب السم .
الثاني : النقصان من القوة وضعفها إن سلم من الهلاك .
والثالث : عود قوته إليه كما كانت أو خيرا منها بعيد .
[ ص: 305 ] والأكثر إنما هو القسمان الأولان ، ولعل الثالث نادر جدا ، فهو على يقين من ضرر السم ، وعلى رجاء من حصول العافية ، بخلاف من لم يتناول ذلك .
السابع : أن المطيع قد أحاط على بستان طاعته حائطا حصينا لا يجد الأعداء إليه سبيلا ، فثمرته وزهرته وخضرته وبهجته في زيادة ونمو أبدا ، والعاصي قد فتح فيه ثغرا ، وثلم فيه ثلمة ، ومكن منه السراق والأعداء ، فدخلوا فعاثوا فيه يمينا وشمالا ، أفسدوا أغصانه ، وخربوا حيطانه ، وقطعوا ثمراته ، وأحرقوا في نواحيه ، وقطعوا ماءه ، ونقصوا سقيه ، فمتى يرجع هذا إلى حاله الأول ؟ فإذا تداركه قيمه ولم شعثه ، وأصلح ما فسد منه ، وفتح طرق مائه ، وعمر ما خرب منه ، فإنه إما أن يعود كما كان ، أو أنقص ، أو خيرا ، ولكن لا يلحق بستان صاحبه الذي لم يزل على نضارته وحسنه ، بل في زيادة ونمو ، وتضاعف ثمرة ، وكثرة غرس .
والثامن : أن طمع العدو في هذا العاصي إنما كان لضعف علمه وضعف عزيمته ، ولذلك يسمى جاهلا ، قال
قتادة : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن
كل ما عصي الله به فهو جهالة ، وكذلك قال الله تعالى في حق
آدم ولم نجد له عزما وقال في حق غيره
فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل وأما من قويت عزيمته ، وكمل علمه ، وقوي إيمانه لم يطمع فيه عدوه ، وكان أفضل .
التاسع : أن المعصية لا بد أن تؤثر أثرا سيئا ولا بد إما هلاكا كليا ، وإما خسرانا وعقابا يعقبه إما عفو ودخول الجنة ، وإما نقص درجة ، وإما خمود مصباح الإيمان ، وعمل التائب في رفع هذه الآثار والتكفير ، وعمل المطيع في الزيادة ، ورفع الدرجات .
ولهذا كان قيام الليل نافلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، فإنه يعمل في زيادة الدرجات ، وغيره يعمل في تكفير السيئات ، وأين هذا من هذا ؟ .
العاشر : أن
المقبل على الله المطيع له يسير بجملة أعماله ، وكلما زادت طاعاته وأعماله ازداد كسبه بها وعظم ، وهو بمنزلة من سافر فكسب عشرة أضعاف رأس ماله ، فسافر ثانيا برأس ماله الأول وكسبه ، فكسب عشرة أضعافه أيضا ، فسافر ثالثا أيضا بهذا المال كله ، وكان ربحه كذلك ، وهلم جرا ، فإذا فتر عن السفر في آخر أمره ، مرة واحدة ، فاته من الربح بقدر جميع ما ربح أو أكثر منه ، وهذا معنى قول
الجنيد رحمه الله : لو أقبل
[ ص: 306 ] صادق على الله ألف عام ثم أعرض عنه لحظة واحدة كان ما فاته أكثر مما ناله ، وهو صحيح بهذا المعنى ، فإنه قد فاته في مدة الإعراض ربح تلك الأعمال كلها ، وهو أزيد من الربح المتقدم ، فإذا كان هذا حال من أعرض ، فكيف من عصى وأذنب ؟ وفي هذا الوجه كفاية .