فصل وكثير من الناس إنما
يفسر التوبة بالعزم على أن لا يعاود الذنب ،
وبالإقلاع عنه في الحال ،
وبالندم عليه في الماضي ، وإن كان في حق آدمي فلا بد من أمر رابع ، وهو التحلل منه .
وهذا الذي ذكروه بعض مسمى التوبة بل شرطها ، وإلا فالتوبة في كلام الله
[ ص: 313 ] ورسوله - كما تتضمن ذلك - تتضمن العزم على فعل المأمور والتزامه فلا يكون بمجرد الإقلاع والعزم والندم تائبا ، حتى يوجد منه العزم الجازم على فعل المأمور ، والإتيان به ، هذا حقيقة التوبة ، وهي اسم لمجموع الأمرين ، لكنها إذا قرنت بفعل المأمور كانت عبارة عما ذكروه ، فإذا أفردت تضمنت الأمرين ، وهي كلفظة التقوى التي تقتضي عند إفرادها فعل ما أمر الله به ، وترك ما نهى الله عنه ، وتقتضي عند اقترانها بفعل المأمور الانتهاء عن المحظور .
فإن
حقيقة التوبة الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب ، وترك ما يكره ، فهي رجوع من مكروه إلى محبوب ، فالرجوع إلى المحبوب جزء مسماها ، والرجوع عن المكروه الجزء الآخر ، ولهذا علق سبحانه الفلاح المطلق على فعل المأمور وترك المحظور بها ، فقال
وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون فكل تائب مفلح ، ولا يكون مفلحا إلا من فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه ، وقال تعالى
ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون وتارك المأمور ظالم ، كما أن فاعل المحظور ظالم ، وزوال اسم الظلم عنه إنما يكون بالتوبة الجامعة للأمرين ، فالناس قسمان : تائب وظالم ليس إلا ،
فالتائبون هم العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله فحفظ حدود الله جزء التوبة ، والتوبة هي مجموع هذه الأمور ، وإنما سمي تائبا لرجوعه إلى أمر الله من نهيه ، وإلى طاعته من معصيته ، كما تقدم .
فإذا
التوبة هي حقيقة دين الإسلام ، والدين كله داخل في مسمى التوبة وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله ، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، وإنما يحب الله من فعل ما أمر به ، وترك ما نهى عنه .
فإذا التوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه ظاهرا وباطنا ، ويدخل في مسماها الإسلام ، والإيمان ، والإحسان ، وتتناول جميع المقامات ، ولهذا كانت غاية كل مؤمن ، وبداية الأمر وخاتمته ، كما تقدم ، وهي الغاية التي وجد لأجلها الخلق ، والأمر والتوحيد جزء منها ، بل هو جزؤها الأعظم الذي عليه بناؤها .
وأكثر الناس لا يعرفون قدر التوبة ولا حقيقتها ، فضلا عن القيام بها علما وعملا
[ ص: 314 ] وحالا ، ولم يجعل الله تعالى محبته للتوابين إلا وهم خواص الخلق لديه .
ولولا أن التوبة اسم جامع لشرائع الإسلام وحقائق الإيمان لم يكن الرب تعالى يفرح بتوبة عبده ذلك الفرح العظيم ، فجميع ما يتكلم فيه الناس من المقامات والأحوال هو تفاصيل التوبة وآثارها .