فصل
واختلفوا فيما إذا
تاب القاتل وسلم نفسه فقتل قصاصا ، هل يبقى عليه يوم القيامة للمقتول حق ؟ .
فقالت طائفة : لا يبقى عليه شيء لأن القصاص حده ، والحدود كفارة لأهلها ، وقد استوفى ورثة المقتول حق موروثهم ، وهم قائمون مقامه في ذلك ، فكأنه قد استوفاه بنفسه إذ لا فرق بين استيفاء الرجل حقه بنفسه أو بنائبه ووكيله .
يوضح هذا أنه أحد الجنايتين ، فإذا استوفيت منه لم يبق عليه شيء كما لو جنى على طرفه فاستقاد منه ، فإنه لا يبقى له عليه شيء .
وقالت طائفة : المقتول قد ظلم وفاتت عليه نفسه ولم يستدرك ظلامته ، والوارث إنما أدرك ثأر نفسه وشفاء غيظه ، وأي منفعة حصلت للمقتول بذلك ؟ وأي ظلامة استوفاها من القاتل ؟ .
قالوا : فالحقوق في القتل ثلاثة : حق لله ، وحق للمقتول ، وحق للوارث ، فحق الله لا يزول إلا بالتوبة ، وحق الوارث قد استوفاه بالقتل ، وهو مخير بين ثلاثة أشياء : بين القصاص ، والعفو مجانا ، أو إلى مال ، فلو أحله أو أخذ منه مالا لم يسقط حق المقتول بذلك ، فكذلك إذا اقتص منه; لأنه أحد الطرق الثلاثة في استيفاء حقه ، فكيف يسقط حق المقتول بواحد منها دون الآخرين ؟ .
[ ص: 402 ] قالوا : ولو قال القتيل : لا تقتلوه لأطالبه بحقي يوم القيامة فقتلوه ، أكان يسقط حقه أو لم يسقطه ؟ فإن قلتم : يسقط ، فباطل; لأنه لم يرض بإسقاطه ، وإن قلتم : لا يسقط ، فكيف تسقطونه إذا اقتص منه مع عدم العلم برضا المقتول بإسقاط حقه ؟ .
وهذه حجج كما ترى في القوة لا تندفع إلا بأقوى منها أو بأمثالها .
فالصواب والله أعلم أن يقال : إذا تاب القاتل من حق الله ، وسلم نفسه طوعا إلى الوارث ليستوفي منه حق موروثه سقط عنه الحقان ، وبقي حق الموروث لا يضيعه الله ، ويجعل من تمام مغفرته للقاتل تعويض المقتول; لأن مصيبته لم تنجبر بقتل قاتله ، والتوبة النصوح تهدم ما قبلها ، فيعوض هذا عن مظلمته ، ولا يعاقب هذا لكمال توبته ، وصار هذا كالكافر المحارب لله ولرسوله إذا قتل مسلما في الصف ثم أسلم وحسن إسلامه فإن الله سبحانه يعوض هذا الشهيد المقتول ، ويغفر للكافر بإسلامه ولا يؤاخذه بقتل المسلم ظلما فإن
هدم التوبة لما قبلها كهدم الإسلام لما قبله .
وعلى هذا إذا سلم نفسه وانقاد فعفا عنه الولي وتاب القاتل توبة نصوحا فالله تعالى يقبل توبته ويعوض المقتول .
فهذا الذي يمكن أن يصل إليه نظر العالم واجتهاده ، والحكم بعد ذلك لله
إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم .