فصل المشهد الخامس
وهو أحد مشاهد أهل الاستقامة :
مشهد الحكمة ، وهو مشهد حكمة الله في تقديره على عبده ما يبغضه سبحانه ويكرهه ، ويلوم ويعاقب عليه ، وأنه لو شاء لعصمه منه ، ولحال بينه وبينه ، وأنه سبحانه لا يعصى قسرا ، وأنه لا يكون في العالم شيء إلا بمشيئته
ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين .
وهؤلاء يشهدون أن الله سبحانه لم يخلق شيئا عبثا ولا سدى ، وأنه له الحكمة البالغة في كل ما قدره وقضاه من خير وشر ، وطاعة ومعصية ، وحكمة باهرة تعجز العقول عن الإحاطة بكنهها ، وتكل الألسن عن التعبير عنها .
فمصدر قضائه وقدره لما يبغضه ويسخطه اسمه الحكيم الذي بهرت حكمته الألباب ، وقد قال تعالى لملائكته لما قالوا
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك فأجابهم سبحانه بقوله :
إني أعلم ما لا تعلمون فلله سبحانه في ظهور المعاصي والذنوب والجرائم وترتب آثارها من الآيات والحكم ، وأنواع التعرفات إلى خلقه ، وتنويع آياته ، ودلائل ربوبيته ووحدانيته ، وإلهيته ، وحكمته ، وعزته ، وتمام ملكه ، وكمال قدرته ، وإحاطة علمه ما يشهده أولو البصائر عيانا ببصائر قلوبهم ، فيقولون
ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك إن هي إلا حكمتك الباهرة ، وآياتك الظاهرة .
ولله في كل تحريكة وتسكينة أبدا شاهد وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
فكم من آية من الأرض بينة ، دالة على الله ، وعلى صدق رسله ، وعلى أن لقاءه
[ ص: 410 ] حق ، كان سببها معاصي بني آدم وذنوبهم ، كآيته في إغراق قوم
نوح ، وعلو الماء على رءوس الجبال حتى أغرق جميع أهل الأرض ونجى أولياءه ، وأهل معرفته وتوحيده ، فكم في ذلك من آية وعبرة ، ودلالة باقية على مر الدهور ؟ ! وكذلك إهلاك قوم
عاد وثمود .
وكم له من آية في
فرعون وقومه من حين بعث
موسى عليه السلام إليهم بل قبل مبعثه إلى حيث إغراقهم ، لولا معاصيهم وكفرهم لم تظهر تلك الآيات والعجائب ، وفي التوراة أن الله تعالى قال
لموسى : اذهب إلى
فرعون فإني سأقسي قلبه ، وأمنعه عن الإيمان لأظهر آياتي وعجائبي
بمصر ، وكذلك فعل سبحانه فأظهر من آياته وعجائبه بسبب ذنوب
فرعون وقومه ما أظهر .
وكذلك إظهاره سبحانه ما أظهر من جعل النار بردا وسلاما على
إبراهيم بسبب ذنوب قومه ومعاصيهم ، وإلقائهم له في النار ، حتى صارت تلك آية ، وحتى نال
إبراهيم بها ما نال من كمال الخلة .
وكذلك ما حصل للرسل من الكرامة والمنزلة والزلفى عند الله والوجاهة عنده ، بسبب صبرهم على أذى قومهم ، وعلى محاربتهم لهم ومعاداتهم .
وكذلك اتخاذ الله تعالى الشهداء والأولياء والأصفياء من بني آدم بسبب صبرهم على أذى بني آدم من أهل المعاصي والظلم ، ومجاهدتهم في الله ، وتحملهم لأجله من أعدائه ما هو بعينه وعلمه ، واستحقاقهم بذلك رفعة الدرجات .
إلى غير ذلك من المصالح والحكم التي وجدت بسبب ظهور المعاصي والجرائم ، وكان من سببها تقدير ما يبغضه الله ويسخطه ، وكان ذلك محض الحكمة لما يترتب عليه مما هو أحب إليه وآثر عنده من فوته بتقدير عدم المعصية .
فحصول هذا المحبوب العظيم أحب إليه من فوات ذلك المبغوض المسخوط ، فإن فواته وعدمه وإن كان محبوبا له لكن حصول هذا المحبوب الذي لم يكن يحصل بدون وجود ذلك المكروه المسخوط ، وكمال حكمته تقتضي حصول أحب الأمرين إليه بفوات أدنى المحبوبين ، وأن لا يعطل هذا الأحب بتعطيل ذلك المكروه ، وفرض الذهن وجود هذا بدون هذا ، كفرضه وجود المسببات بدون أسبابها ، والملزومات بدون لوازمها مما تمنعه حكمة الله ، وكمال قدرته وربوبيته .
ويكفي من هذا مثال واحد ، وهو أنه لولا
المعصية من أبي البشر بأكله من
[ ص: 411 ] الشجرة لما ترتب على ذلك ما ترتب من وجود هذه المحبوبات العظام للرب تعالى ، من امتحان خلقه وتكليفهم ، وإرسال رسله ، وإنزال كتبه ، وإظهار آياته وعجائبه وتنويعها وتصريفها ، وإكرام أوليائه ، وإهانة أعدائه ، وظهور عدله وفضله ، وعزته وانتقامه ، وعفوه ومغفرته وصفحه وحلمه ، وظهور من يعبده ويحبه ويقوم بمراضيه بين أعدائه في دار الابتلاء والامتحان .
فلو قدر أن آدم لم يأكل من الشجرة ، ولم يخرج من الجنة هو وأولاده لم يكن شيء من تلك ، ولا ظهر من القوة إلى الفعل ما كان كامنا في قلب إبليس يعلمه الله ولا تعلمه الملائكة ، ولم يتميز خبيث الخلق من طيبهم ، ولم تتم المملكة ، حيث لم يكن هناك إكرام وثواب ، وعقوبة وإهانة ، ودار سعادة وفضل ، ودار شقاوة وعدل .
وكم في تسليط أوليائه على أعدائه ، وتسليط أعدائه على أوليائه ، والجمع بينهما في دار واحدة ، وابتلاء بعضهم ببعض من حكمة بالغة ، ونعمة سابغة ! .
وكم فيها من حصول محبوب للرب ، وحمد له من أهل سماواته وأرضه ، وخضوع له وتذلل ، وتعبد وخشية وافتقار إليه ، وانكسار بين يديه أن لا يجعلهم من أعدائه ، إذ هم يشاهدونهم ويشاهدون خذلان الله لهم ، وإعراضه عنهم ، ومقته لهم ، وما أعد لهم من العذاب ، وكل ذلك بمشيئته وإرادته ، وتصرفه في مملكته ، فأولياؤه من خشية خذلانه خاضعون مشفقون ، على أشد وجل ، وأعظم مخافة ، وأتم انكسار .
فإذا رأت الملائكة إبليس وما جرى له ،
وهاروت وماروت وضعت رءوسها بين يدي الرب خضوعا لعظمته ، واستكانة لعزته ، وخشية من إبعاده وطرده ، وتذللا لهيبته ، وافتقارا إلى عصمته ورحمته ، وعلمت بذلك منته عليهم ، وإحسانه إليهم ، وتخصيصه لهم بفضله وكرامته .
وكذلك أولياؤه المتقون ، إذا شاهدوا أحوال أعدائه ومقته لهم ، وغضبه عليهم ، وخذلانه لهم ، ازدادوا خضوعا وذلا ، وافتقارا وانكسارا ، وبه استعانة وإليه إنابة ، وعليه توكلا ، وفيه رغبة ، ومنه رهبة ، وعلموا أنهم لا ملجأ لهم منه إلا إليه ، وأنهم لا يعيذهم من بأسه إلا هو ، ولا ينجيهم من سخطهم إلا مرضاته ، فالفضل بيده أولا وآخرا .
[ ص: 412 ] وهذه قطرة من بحر حكمته المحيطة بخلقه ، والبصير يطالع ببصيرته ما وراءه ، فيطلعه على عجائب من حكمته ، لا تبلغها العبارة ، ولا تنالها الصفة .
وأما حظ العبد في نفسه ، وما يخصه من شهود هذه الحكمة فبحسب استعداده وقوة بصيرته ، وكمال علمه ومعرفته بالله وأسمائه وصفاته ، ومعرفته بحقوق العبودية والربوبية ، وكل مؤمن له من ذلك شرب معلوم ، ومقام لا يتعداه ولا يتخطاه ، والله الموفق والمعين .