فصل
ومن
علامات الإنابة ترك الاستهانة بأهل الغفلة والخوف عليهم ، مع فتحك باب الرجاء لنفسك ، فترجو لنفسك الرحمة ، وتخشى على أهل الغفلة النقمة ، ولكن ارج لهم الرحمة ، واخش على نفسك النقمة ، فإن كنت لا بد مستهينا بهم ماقتا لهم لانكشاف أحوالهم لك ، ورؤية ما هم عليه ، فكن لنفسك أشد مقتا منك لهم ، وكن أرجى لهم لرحمة الله منك لنفسك .
قال بعض السلف : لن تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في ذات الله ، ثم ترجع إلى نفسك فتكون لها أشد مقتا .
وهذا الكلام لا يفقه معناه إلا الفقيه في دين الله ، فإن من شهد حقيقة الخلق ، وعجزهم وضعفهم وتقصيرهم ، بل تفريطهم ، وإضاعتهم لحق الله ، وإقبالهم على غيره ، وبيعهم حظهم من الله بأبخس الثمن من هذا العاجل الفاني لم يجد بدا من مقتهم ، ولا يمكنه غير ذلك البتة ، ولكن إذا رجع إلى نفسه وحاله وتقصيره ، وكان على بصيرة من ذلك كان لنفسه أشد مقتا واستهانة ، فهذا هو الفقيه .
وأما الاستقصاء في رؤية علل الخدمة فهو التفتيش عما يشوبها من حظوظ النفس ، وتمييز حق الرب منها من حظ النفس ، ولعل أكثرها أو كلها أن تكون حظا لنفسك وأنت لا تشعر .
فلا إله إلا الله ، كم في النفوس من
علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون [ ص: 438 ] لله خالصة ، وأن تصل إليه ؟ وإن العبد ليعمل العمل حيث لا يراه بشر البتة ، وهو غير خالص لله ، ويعمل العمل والعيون قد استدارت عليه نطاقا ، وهو خالص لوجه الله ، ولا يميز هذا إلا أهل البصائر وأطباء القلوب العالمون بأدوائها وعللها .
فبين العمل وبين القلب مسافة ، وفي تلك المسافة قطاع تمنع وصول العمل إلى القلب ، فيكون الرجل كثير العمل ، وما وصل منه إلى قلبه محبة ولا خوف ولا رجاء ، ولا زهد في الدنيا ولا رغبة في الآخرة ، ولا نور يفرق به بين أولياء الله وأعدائه ، وبين الحق والباطل ، ولا قوة في أمره ، فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه لاستنار وأشرق ، ورأى الحق والباطل ، وميز بين أولياء الله وأعدائه ، وأوجب له ذلك المزيد من الأحوال .
ثم بين القلب وبين الرب مسافة ، وعليها قطاع تمنع وصول العمل إليه ، من كبر وإعجاب وإدلال ، ورؤية العمل ، ونسيان المنة ، وعلل خفية لو استقصى في طلبها لرأى العجب ، ومن رحمة الله تعالى سترها على أكثر العمال ، إذ لو رأوها وعاينوها لوقعوا فيما هو أشد منها ، من اليأس والقنوط والاستحسار ، وترك العمل ، وخمود العزم ، وفتور الهمة ، ولهذا لما ظهرت " رعاية "
nindex.php?page=showalam&ids=15166أبي عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي واشتغل بها العباد عطلت منهم مساجد كانوا يعمرونها بالعبادة . والطبيب الحاذق يعلم كيف يطبب النفوس ، فلا يعمر قصرا ويهدم مصرا .